مقام فاطمة عليها السلام لا يُدرك[1]
فذلك المقام الأسمى والذي عبّر عنه الإمام (عليه السلام) بالعبودية المطلقة لا يمكن أن يصل إليه أحد حتّى إنّه لا يمكن أن يدرك، وهو مقام خاصّ بالنبيّ وأهل بيته عليهم السلام. أمّا فيما خصّ السيدة الزهراء عليها السلام، فإنّ الإمام قدس سره يعترف بالعجز حتّى عن الكلام عنها فعندما طلبت منه زوجة ابنه أن يتحدّث عنها عليها السلام، كتب: "إنّك تطلبين منّي أن أتحدّث وأكتب عن هذه السيدة العظيمة، فكيف لي ولقلمي ولغة البشر الحديثُ عن سيدة كانت تستنزل جبرائيل، كمثل أبيها صلى الله عليه وآله وسلم، بقدرة ما فوق الملكوت، من غيب عالم الملكوت إلى عالم الملك؟ وتجعل ما في الغيب ظاهراً في الشهادة! فدعيني إذاً أجتاز هذا الوادي المريع، وأقول إنّ فاطمة عليها السلام، التي هي هكذا في المراحل الإلهيّة الغيبيّة، قد ظهرت في عالم الشهادة وتجسّدت كما أبوها وبعلها في صورة بشر ظاهر، لتؤدّي دورها ورسالتها في شؤون عالم الملك من تعليم وتعلّم كافة، ونشر للثقافة الإسلامية، ومعارضة للطواغيت، وجد من أجل قيام حكومة العدل، وإحقاق حقوق البشرية، ودحض الدعاوى الشيطانية وتفنيدها"[2]. إذًا فالسيدة فاطمة عليها السلام قد تجلّت وظهرت في الدنيا للقيام بدور يعجز عنه غيرها، كما هي حال المعصومين جميعًا، وليس ذلك الدور الذي أدّته في حياتها هو كلّ حقيقة السيدة الزهراء عليها السلام.
ويقول الإمام قدس سره أيضاً في علوّ مقام السيدة الزهراء ورفعته: "وماذا يستطيع المرء أن يقول أو يدرك حول شخصيّة تتمتع بآلاف الأبعاد الإلهيّة يعجز عن تبيان كلّ منها القلم واللسان. إنّه ليس بوسع أحد أن يعرف شخصيّة الزهراء المرضيّة والصدّيقة الطاهرة عليها السلام سوى الذين ارتقوا مدارج الأبعاد الإلهيّة حتّى ذروتها، وهو ما لم يبلغه سوى أولي العزم من الأنبياء والخلّص من الأولياء كالمعصومين عليهم السلام... ويخطئ من يدّعي معرفة مقامها المقدس من العرفاء أو الفلاسفة أو العلماء. وكيف يمكن إماطة اللثام عن منزلتها الرفيعة وقد كان رسول الإسلام يتعامل معها في حال حياته معاملة الكامل المطلق!"[3].
فالإمام قدس سره يبيّن كيفيّة كون مقامها الشامخ وعظمتها ليسا من الأمور التي يمكن إدراكها من قبل البشر، بل هي أمور خاصّة بها وبالكمّل من خلق الله عزّ وجلّ، أمّا أفعالهم في الدنيا فهي وإن كانت في أوج العظمة والجلال والكمال لكنّها لا تعبّر عن كامل حقيقتهم ومقامهم المعنويّ.
لكن ينبغي أن نشير إلى مسألة مهمّة في المقام، وهي أنّ العجز عن معرفة حقيقة المقام المعنويّ للسيدة الزهراء عليها السلام لا يعني أنّه لا يمكن للبشر الوصول إلى بعض درجات المقامات المعنويّة الرفيعة الخاصّة بالمعصومين عليهم السلام بل إنّه يمكن الوصول إلى مراتبهم ودرجاتهم السامية فيما لو اتبعناهم بإحسان وكانوا هم من أخذ بأيدينا نحوهم، يقول الإمام قدس سره في معرض حديثه عن مقام الإخلاص لله عزّ وجلّ: "التخلّص بهذه المرتبة الكاملة، وان كان لا يتحقّق لغير الكُمّل من الأولياء والأصفياء... ولكن لا يجوز للمؤمنين والمخلصين أيضا أن يغضّوا النظر عن جميع مراتبه ويقنعوا بالإخلاص الصوريّ العمليّ والخلوص الظاهريّ الفقهيّ"[4]. إذًا، فجميع البشر قادرون بل هم مدعون للتكامل المعنويّ، إلّا أنّ المقامات المعنويّة للنبيّ وأهل بيته عليهم السلام هي من مختصّاتهم وتابعة لحقيقتهم، وتحقّق بعض مراتبها متوقّف على إذنهم وشفاعتهم وتبعيّتهم.
السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قدوة وأسوة، دار المعارف الإسلامية الثقافية.
[1] الامام الخمينيّ، الآداب المعنوية للصلاة، مصدر سابق، فصل عز الربوبية وذل العبودية.
[2] رسالة الامام الخمينيّ إلى فاطمة الطباطبائي.
[3] المصدر نفسه.
[4] الامام الخمينيّ، الآداب المعنوية للصلاة، مصدر سابق، فصل في بعض آداب الاستعاذة.