بسم الله وله الحمد والمجد غاية آمال العارفين وحبيب قلوب الصادقين والصلاة والسلام على هداة عباده ووسائله التي أمر بابتغائها إليه المصطفى الأمين وآله الطاهرين. السلام عليكم إخوتنا وأخواتنا ورحمة الله وطابت أوقاتكم بكل خير، تعلمون جميعاً بكثرة ما ورد في مدح التقوى وذكر ثمارها وبركاتها في الدنيا والآخرة ترغيباً للإلتزام بها لأنها خير زاد السالك الى الله عزوجل، ولكن من الضروري للتمسك بالتقوى أن نعرف ما هي أولاً وكيف نجسدها عملياً في سلوكنا اليومي، وهذا الموضوع هو ما يبينه لنا المقطع الذي إخترناه لهذا اللقاء من الوصية الموسومة (بالنافعة) التي كتبها الفقيه العارف علم علماء الإمامية في القرن الهجري العاشر الشيخ الأجل زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني رضوان الله عليه، تابعونا مشكورين. في وصيته المشار إليها والتي نشرتها مجلة (تراثنا) في عددها الرابع عشر قال هذا العلامة الجليل: "المراد بالتقوى امتثال أو أمر الله تعالى واجتناب نواهيه ومن ثم كانت هذه الخصلة جامعة لجميع خلال الخير. وسئل الصادق عليه السلام عن تفسيرها (أي عن تفسير التقوى) فقال: (أن لايفقدك حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك)، فعليك يا أخي وفقك الله تعالى بمراعاة هذه الوصية الجامعة والتحلي بحليتها واغتنام عمرك القصير الذي هو متجر الدار الآخرة وسبب السعادة الأبدية والكرامة السرمدية وما أعظم هذا الربح وأقل رأس المال وأعظم الحسرة والندامة على تقدير التقصير في المعاملة والاكتساب في وقته إذا عاين المقصر درجات السابقين ومنازل الواصلين وثمرة أعمال المجتهدين وقد فات الوقت ولم يمكن الاستدراك". مستمعينا الأفاضل هذا عن معنى التقوى ولكن كيف نجسد مظهرها العملي في سلوكنا من خلال جعله متقيداً بها؟ يجيب عن هذا السؤال الشيخ الشهيد رضوان الله عليه، وهو يتابع وصيته قائلاً: "واعلم أن ضبط العمر في تحصيل السعادة لايتم إلا بمراعاة النفس كل يوم ومحاسبتها ثم مراقبتها ثم معاقبتها على تقدير التقصير أو الفتور كما هو اللازم مع معاملي الدنيا، القليل خطرها، التي لا يضر زوال ما زال منها ولا فوات ما فات منها، فكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم إليه المال حتى يتجر ثم يحاسبه ويراقبه ويعاقبه إن قصر ويعاتبه إن غبن، فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة، ومطلبه وربحه تزكية النفس بتخليها عن الخصال الذميمة وتحليها بالخلال الحميدة فبذلك فلاحها، قال الله تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة ويستعملها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله، وكما أن الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولا ويراقبه ثانيا ويحاسبه ثالثا ويعاتبه أو يعاقبه رابعا، فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولا فيوظف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ثم لا يغفل عن مراقبتها فإنه من غفل عن مراقبتها لم ير إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا انفرد بالمال". أيها الاخوة والاخوات ولايمكن للنفس أن تلتزم بمقتضيات التقوى بدون المحاسبة التي تكمل ثمار المشارطة والمراقبة. قال الشيخ الشهيد زين الدين العاملي رضوان الله عليه: "ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء، وخسارتها والعياذ بالله عذاب جهنم مع الفراعنة والأشقياء، إذا ليس في تلك الدار إلا الجنة والنار، والجنة أعدت للمتقين كما أن النار أعدت للمقصرين، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيرا من تدقيقه في أرباح الدنيا لأنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى، ثم كيف ما كانت فمصيرها إلى التصرم والانقضاء، ولا خير في خير لايدوم، بل شر لا يدوم خير من خير لايدوم، لأن الشر الذي لايدوم إذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائما وقد انقضى، والخير الذي لايدوم يبقى الأسف على انقطاعه دائما وقد انقضى الخير". أيها الاخوة والأخوات نكتفي بهذا المقدار مما جاء في الوصية الموسومة بالنافعة كلام الفقيه الإمامي العارف الشيخ زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني. وقد تبنى فيه أن معنى التقوى هو ضبط النفس وإستثمار العمر فيما أراده الله لنا، وأن التحلي بها يحتاج الى مشارطة النفس ومراقبتها ومحاسبتها ومجازاتها أيضاً بالتفصيل المتقدم. وها نحن نصل الى ختام حلقة أخرى من برنامج (من فيض أهل المعرفة) إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران. تقبل الله منكم حسن الإصغاء والسلام عليكم.