تقع مجموعة قصور تخت جمشيد في منطقة واسعة يحيط بها جبل «الرحمة» من جانب، وتنتهي بسهول «مرودشت» من جانب آخر. بنيت هذه القصور الملكية الكبيرة في جوار مدينة بارسه. وقد سمّاها اليونانيون برسبوليس. بدأ العمل ببناء تخت جمشيد في عهد حكم داريوش الاول وفي حوالي عام 518 قبل الميلاد.
وتمّ في بادىء الأمر، الإعداد لأساسات مرتفعة ومن ثمّ بنيت عليها قاعة «آبادانا» والسلالم الرئيسة وكذلك قصر «تجر». وبعد أن مات داريوش، خلفه إبنه خشايار شاه، الذي شيّد قاعة «هديش» وعرض مشروع بناء قاعة ذات مئة عماد، ومن بعده، جلس على العرش أردشير الأول وأكمل بناء هذه القاعة.
جدير بالذكر هنا أن هذه القصور والقاعات بنيت على أساسات وقوائم كانت من صخور عظيمة منسجمة قام النحاتون بنحتها في الجبال نفسها. بنيت قصور تخت جمشيد على أرض مساحتها 13 هكتاراً. كانت تخت جمشيد مزودة بانظمة حرارية ومكيفات، ما يوفر للفضاءات الداخلية حرارة ضرورية في فصل الشتاء، وبالمقابل كان يؤمن في أيام الصيف الحارة جواً بارداً ومعتدلاً.
فسهول مرودشت وكذلك السقوف العالية جداً للقصور، والقاعات والفضاءات الواسعة، والأبواب المفتوحة، ووجود العدد الكبير للنوافد فيها، كلّها كانت تساعد في توفير جو معتدل في الصيف. وأما في الشتاء، فكانت الجدران المبنية من الطوب واللبنة، والطبقات من الجص، إضافة الى الستائر الأرجوانية السميكة الطويلة، كانت تشكل عازلاً حرارياً يحول دون تغلغل البرد الفارس الى داخل القاعات والفضاءات.
كما أن السقوف المغطاة بالأخشاب كانت بدورها تساعد في تدفئة المحيط. هذا وان شبكة توصيل المياه ومجارى المياه كانت قائمة في تخت جمشيد. وقد كشفت أعمال التنقيب في هذا الموقع الأثري، عن شبكات جوفية لتوصيل المياه ومجار للمياه ملتوية يبلغ طولها أكثر من كيلومترين.
إن فن العمارة الأخمينية عبارة عن فن إمتزج بأساليب العمارة البابلية والآشورية والمصرية، وما كان منتشراً في المدن اليونانية في منطقة آسيا الصغرى وبين اقوام أورارتو، غير أن هذا الفن قد تمّ تطويره بشكل مستقل عن فنون العمارة الأخرى باعتماده نماذج فنية رائعة وإبداعات نابعة عن روح ايرانية ثرّة. وكان هدف الأخمينيين من تشييد هكذا بنايات وعمارات مهيبة هو إبراز سلطتهم الملكية العظيمة للعالم.
من خلال اعمال الحفر التي أجريت عام 1312 هـ. ش في الجانب الشمالي الغربي لأساسات تخت جمشيد، تمّ العثور على نحو أربعين ألف لوحة طينية على شكل ومقياس أتربة الصلاة، كتبت عليها عبارات بالخط العيلامي. وبعد قراءة هذه الألواح العيلامية تبين فيما بعد بأنها وثائق تتحدث عن تكاليف بناء قصور تخت جمشيد.
هذه الألواح بعضها مكتوبة باللغة الفارسية والخط العيلامي. من جهتها كشفت هذه الألواح الطينية زيف الأدعاءات التي كانت تقول إن قصور تخت جمشيد بنيت كالأهرام المصرية على أساس الظلم والأضطهاد والعنجهية بحق العمال البؤساء؛ فهذه الألواح العيلامية أو لنقل الوثائق التاريخية تروي بأن جميع من عملوا في تشييد هذه القصور بمن فيهم العمال والمعماريون والنجارون والنحاة والمهندسون، كانوا يحصلون على الرواتب والأجور لقاء عملهم هذا. وكلّ لوحة طينية عيلامية، تعدّ وثيقة لدفع تكاليف استخدام عامل واحد أو عدد من العمال.
وكان العمال الذين ساهموا في بناء تخت جمشيد من جنسيات مختلفة؛ إيرانية وبابلية ومصرية ويونانية وعيلامية وآشورية؛ وجميع هؤلاء كانوا من رعايا إلامبراطورية إلايرانية.
لم يكن تخت جمشيد مدينة ولا قلعة حصينة ولا معبداً، بل كان يلعب دورين مختلفين من خلال انسجام متماسك إلى حدٍ ما؛ أوّلاً لكونه واقعاً في قلب إلامبراطورية؛ ما جعله مكنزاً ملائماً لإدخار ثروات البلاد المتصاعدة يوماً بعد يوم. وثانياً أنه كان مكاناً فاخراً مناسباً لإقامة مراسم واحتفالات مختلفة كالمهرجانات وعيد النيروز.
لمّا هاجم الاسكندر تخت جمشيد ورأى بعينيه هذا القسط الوافر من العظمة والثروة الملكية، أمر جنوده بأن يغتنموا كلّ شيء يقدرون على حمله، ويدمّروا ما لا يمكن حمله. وما تبقى اليوم من تخت جمشيد، يجسد في أذهاننا صورة في غاية إلابهام والغموض عمّا تتمتع به القصور والصروح من الشوكة والأبهة.
اكبر قصر في مجموعة تخت جمشيد كان يعرف بقصر «المائة عامود» وقد يعتبر من اكبر المعالم المعمارية المتبقية من الحكم الأخميني والذي كان يستخدمه الملك داريوش الاول كقاعته الحكومية العامة. يقع قصر آبادانا في شمال وشرق قصور تخت جمشيد، وله مجموعتان من السلالم. السلالم الشرقية لهذا القصر لها اتجاهان مختلفان شمالاً وجنوباً، حيث نرى نقوشاً حجرية على جدارنها الجانبية.
وفي جدران السلالم المؤدية الى الشمال، نقوش بارزة عن القادة العسكريين الماديين والبارسيين رفيعي المستوى، وهم يحملون ورود زنبق الماء، يتقدمهم جنودٌ من حرس «جاويدان» يؤدون التحية العسكرية. أما في القسم العلوي للجدار، فتوجد نقوش تصور أفراداً يقتربون من القصر، حاملين هدايا. وأما على جدران السلالم المؤدية الى الجنوب، فنشاهد صوراً عن سفراء وممثلين من شتى دول العالم يمسكون بأيديهم هدايا.
وفيما يتعلق بقصر «هديش»، فلا تتوفر معلومات كثيرة عنه، وذلك بسبب الدمار الذي لحق به؛ ما جعل البعض يطلقون على «هديش» اسم «القصر المجهول». «هديش» في اللغة الفارسية تعني «مكاناً مرتفعاً»، لكن سبب تسمية هذا القصر بـ «هديش» هو لأن الزوجة الثانية للمك خشايارشاه كان اسمها «هديش». يقع القصر في أقصى جنوب هذه المنطقة، وتتشكل أجزاء كثيرة من أرضية وأسفل القصر من الجبل نفسه.
تم بناء قصر الملكة بأمر من خشايارشاه. وهو يقع على أعلى ارتفاع من باقي العمارات. وقصر «المئة عامود» هو قصر كبير آخر تبلغ مساحته حوالي 46000 متر مربع.
سقف القصر قائم بواسطة مئة عامود يصل ارتفاع كل منها الى 14 متراً. ومن بين القصور الموجودة في تخت جمشيد، يمكن إلاشارة الى قصر «الشورى» أو «القاعة المركزية» التي يحتمل أن كان الملك يعقد هناك جلساته مع كبار وزرائه ورجاله. وحسب الصور المنقوشة، كان الملك يدخل هذا القصر من أحد بواباته ويخرج من البوابتين الأخريين. وجاءت تسمية هذا القصر بـ «الشورى» لوجود عمودين على شكل رأس الانسان فيه، لا نجد له اثراً مماثلاً في أماكن أخرى. ويرمز رأس إلانسان الى التفكير.
وفي منطقة تبعد نحو سبعة كيلومترات عن تخت جمشيد، يوجد معلم أثري باسم «نقش رستم» يضم مقابر الملوك الأخمينيين، مثل داريوش الكبير وخشايارشاه وأردشير الأول وداريوش الثاني. كما يوجد قبر خامس ترك على حاله، قد يتعلق بالملك داريوش الثالث.
أمر الاسكندر المقدوني جنوده بإضرام النيران في تخت جمشيد، وذلك في عام 330 قبل الميلاد، ولم يبق منه سوى أطلال وآثار.
من العمارات المتبقية في تخت جمشيد هو مدخله الرئيس الذي يسمى بقصر آبادانا، والذي يشمل قاعة مركزية مبنية من 36 عموداً وثلاثة ايوانات قائمة على 12 عموداً تقع في الجهات الشمالية والجنوبية والشرقية. فالايوانات الشمالية والشرقية تتصل من خلال سلالم بالساحات والفناءات الأمامية. يبلغ ارتفاع الأرضية في مكان قصر آبادانا ذاته 16 متراً وارتفاع أعمدته 18 متراً.
نرى كتيبات الملك داريوش الكبير بنصوص وأشكال وأعداد مختلفة منقوشة على الجدران والإطارات ونواصي البنايات وزوايا النوافذ. وجاء في أحد هذه النصوص: "ها أنا ذا، الملك الكبير داريوش، ملك الملوك، ملك البلاد والأراضي، إبن ويشتاسب الأخميني، الذي بني هذا القصر. لينصرني أهورا مزدا ويحفظ هذه البلاد من كلّ ما يعصف بها من الأعداء والجفاف والكذب، ويصونها من كل شرّ يحدق بها. وأطلب ذلك من أهورا مزدا كهبة وعطاء، على أمل أن يعطيه إياي أهورا مزدا".
وورد في كتيبة منسوبة إلى خشايار شاه: "أهورا مزدا هو الربّ العظيم، الذي خلق الأرض وخلق لها السماء، والذي خلق إلانسان وخلق له الفرح والسرور، والذي عين خشايار شاه ملكاً واختاره من باقي الملوك والآخرين. ها أنا ذا الملك الكبير خشايار شاه، ملك الملوك، ملك الأراضي التي تسكن فيها أعراقٌ وجنسيات مختلفة من الناس، ملك هذه الأرض الشاسعة وابن داريوش الملك الأخميني. فبنيت العمارات والبنايات كلها بأمر من أهورا مزدا، وهناك عدد كبير من المباني الفاخرة الأخرى في مدينة بارس التي بنيتها أنا ووالدي.
إن كل بناية وعمارة تبدو رائعة، نحن قمنا بتشييدها وذلك بأمر من أهورا مزدا".