الحمد لله الذي علمنا ما لا نعلم من الكلام، وافضل الصلاة وازكى التحية والسلام، على محمد وآله الطيبين الكرام.
اخوتنا المستمعين الافاضل... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رعاكم الله واهلاً بكم في همسة جديدة، تدور حول موضوع الكلام والصمت... فان لكل واحد منهما مواقعه وضروراته وان كان الصمت تغلب مواضعه وتزيد على الكلام، اذ لو خير احدنا بين الصمت مع انتظار الحقيقة، وبين الكلام متخبطاً لا يصل الى نفع ولا ينجو به مما يحذر فماذا سيختار؟ تعالوا ايها الاخوة الاعزة نتأمل في هذا الحديث النبوي الشريف.
يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئاً من الجوارح، فيقول: اي رب، عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئاً! فيقال له: خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الارض ومغاربها، فسفك بها الدم الحرام، وانتبها المال الحرام، وانتهك بها الفرج الحرام. وعزتي وجلالي لا عذبنك بعذاب لا اعذب به شيئاً من الجوارح.
اذن فللكلام محاذير كثيرة وخطيرة... دنيوية واخروية، يأتي رجل الى رسول الله (صلي الله عليه وآله) فيقول: يا رسول الله اوصني، قال: احفظ لسانك. ثم كرر طلبه هذا ثلاث مرات وفي كل يوصيه النبي (صلي الله عليه وآله) بالوصية نفسها حتى قال له: «احفظ لسانك ويحك! وهل يكب الناس على مناخرهم في النار الا حصائد السنتهم؟!».
اخوتنا الاكارم... ان الانسان خطاء كثير الزلل، وان نفسه لأمارة بالسوء، واكثر سوئه يتأتى من لسانه حين يطلقه ليل نهار في كل موضوع وحديث، وقد قال امير المؤمنين علي (عليه السلام): «من كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار»... وسمع الصحابي عبد الله بن مسعود وهو على جبل الصفا يلبي ثم يقول: يا لسان! قل خيراً تغنم او اصمت تسلم من قبل ان تندم فقيل له: اهذا شيء تقوله، أو شيء سمعته؟ قال: بل سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: ان اكثر خطايا ابن آدم في لسانه.
وكان الامام علي (سلام الله عليه) يلفت القلوب الى رقابة الله تعالى على عباده، فينبغي ان يعلم العبد انه محاسب على ما يفعل ويقول، فكان (عليه السلام) يوصي: «تأمل ما تتحدث به، فانما تملي علي كاتبيك صحيفة يوصلانها الى ربك، فانظر على من تملي والى من تكتب».
اجل ...والله تعالى يقول: «ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد» (سورة ق: ۱۸) فهل راقبنا انفسنا، والسنتنا، اذا انساقت نحو آفة من آفات اللسان: كالغيبة والنميمة، والفحش والبذاء، والفضول والمراء، والخوض في المخاصمة والباطل، واللعن والسب، والمزاح المحرم والاستهزاء، وافشاء السر والوعد الكاذب، واليمين الكاذبة والقول الكاذب، وما يستشعر منه السخط على قضاء الله وقدره.. وغير ذلك مما ينجر اليه اللسان ويجر الى غضب الله تعالى وسوء حسابه، وشديد عقابه، وحرمان جنته وثوابه.
اخوتنا الاحبة.... ان للكلام ضروراته وفوائده، هذا لا شك فيه، وكذا له اضراره ومخاطره، فيكون الصمت نجاةً وسلامةً من آفات اللسان، فالصمت ممدوح لانه باعث علي الحكمة وذلك حين ينتظر المرء فيتأمل في اسباب الامور ونتائجها، ويعطي فرصةً كافيةً للعقل ان يفكر ويختار الموقف الصحيح، والمنطق السليم. ولهذا من كان كثير الصمت كان مهيباً محترماً محبوباً لدى الناس، لا يسيء ولا يظلم ولا يستعجل الامور فيخطأ مع الآخرين... وتلك هي السلامة، والله تعالى يقول: «يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً / يصلح لكم اعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم» (سورة الاحزاب: ۷۰-۷۱) ويقول عزوجل: «يا ايها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» (الحجرات:٦) ... فالصمت غالباً ما يكون منجاةً للانسان من الزلل والمحذور ولذا يسمع امير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «صمت يكسبك الوقار خير من كلام يكسوك العار صمت يعقبك السلامة، خير من نطق يعقبك الملامة صمت يكسوك الكرامة خير من قول يكسبك الندامة».
فكم ينبغي على المرء ان يراقب نطقه ولسانه، ويحاسب نفسه ويمسكها عن الخوض في كل حديث والاستغراق في كل موضوع، لئلا يكون همها الكرم فتلك آفة كبرى اذا ابتلي بها المرء اطلق عنان لسانه، فجاء عليه بكل سوء... والعاقل كما يعرفه امير المؤمنين عليه السلام لا يتكلم الابحاجته اوحجته. نعم يتفكر اولاً قبل ان يتكلم فان رأى في كلامه موضعاً مناسباً، واصابةً لمرضاة الله تكلم والا صمت، فقد يكون سكوته واجباً وقد يكون كلامه واجباً هذا يحدده موقفه لا شهوته في الكلام فربما قال قولاً جر الى مقتلة، او قال كلمةً اخمدت فتنة وربما سكت عن حق حتى اضيع او قتل به مظلوم، وربما صدع بكلمة دوت فآتت ثمار الخير والسعادة فاحقت حقاً وابطلت باطلاً وكشفت حقيقةً اذهبت كل وهم وتدليس وعرفت بسبيل الهدى. فالرأي الصحيح اولاً والنطق السليم ثانياً... فاذا جاء الكلام في محله جاء بالحكمة الحسنة، وقد يكون لا بد منه.
الراوي: في (حلية الاولياء) لأبي نعيم، و(مناقب آل ابي طالب) لابن شهر آشوب، ان هشام بن عبد الملك حاكم بني امية حج سنةً، فلم يقدر علي استلام الحجر الاسود، لازدحام الناس، فنصب له منبر وجلس عليه، واطاف به اهل الشام، فبينما هو كذلك اذ اقبل الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام وهو احسن الناس وجهاً واطيبهم ريحاً فجعل يطوف حول الكعبة فاذا بلغ موضع الحجر الاسود تنحى الناس حتى استلمه هيبةً له عليه السلام... فقال شامي متعجباً مستاءً وهو يسأل هشاماً:
الشامي: من هذا يا امير المؤمنين؟ ولماذا تنحى الناس وفسحوله
هشام: لا اعرفه... لم اره من قبل... اني لا اعرفه.
الفرزدق: ولكني اعرفه... نعم انا اعرفه.
الشامي: ومن هو يا فرزدق؟!
يا سائلي:
اين حل الجود والكرم
عندي بيان اذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطاته
والبيت يعرفه... والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي احمد المختار والده
صلى عليه الهي ما جري القلم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة
وابن الوصي الذي في سيفه نقم
اذا رأته قريش قال قائلها:
الى مكارم هذا ينتهي الكرم
وليس قولك: من هذا؟ بضائره
العرب تعرف من انكرت والعجم
هذا ابن فاطمة ان كنت جهاهله
بجده انبياء الله قد ختموا
الله فضله قدماً وشرفه
جرى بذاك له في لوحه القلم
من جده دان فضل الانبياء له
وفضل امته دانت له الامم
كلتا يديه غياث عم نفعهما
تستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره
يزينه خصلتان: الحلم والكرم
من معشر حبهم دين، وبغضهم
كفر، وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم
ويستزاد به الاحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم
في كل فرض ومختوم به الكلم
ان عد اهل التقى كانوا ائمتهم
او قيل: من خير اهل الارض قيل: هم...
الراوي: الى آخر ابياته التي تجاوزت
الاربعين بيتاً، فغضب هشام ابن عبد الملك ومنع جائزته وقال للفرزدق:
هشام: الا قلت فينا مثلها يا فرزدق؟
الفرزدق: هات جداً كجده، واباً كابيه، واماً كامه ... حتى اقول فيك مثلها.
الراوي: فحبسه هشام بعسفان بين مكة والمدينة فبلغ ذلك علي بن الحسين سلام الله عليه فبعث اليه باثني عشر الف درهم وقال (اعذرنا يا ابا فراس فلو كان عندنا اكثر من هذا لوصلناك به).
فاعتذر الفرزدق عن قبول ذلك وقال: يا ابن رسول الله ما قلت هذا الذي قلت الا غضباً لله ولرسوله، فردها اليه الامام زين العابدين (عليه السلام) وقال : «بحقي عليك لما قبلتها فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك» فقبلها وجعل الفرزدق يهجو هشام بن عبد الملك وهو في السجن فكان مما هجاه به قوله:
اتحبسنى بين المدينة والتي
اليها قلوب الناس يهوى منيبها
تقلب رأساً لم يكن راس سيد
وعيناً له حولاء باد عيوبها
فاخبر هشام بذلك، فاطلقه من السجن، واخرجه الى البصرة.