الحمد لله باريء الخلائق أجمعين وأزكي الصلاة على حبيب الله العالمين، المصطفى الامين، وعلى آله الهداة الميامين.
اخوتنا المستمعين الاعزاء... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم في همسة اخرى يدور حديثها حول خصلة هي أسمى درجات الكرم، وأرفع مفاهيمة، الا وهي خصلة «الايثار» التي هي فوق السخاء واعلى من الجود، لأن الايثار هو العطاء مع الحاجة، سئل الامام الصادق عليه السلام عن افضل الصدقة، فاجاب: جهد المقل، اما سمعت الله تعالى يقول: «ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة» (سورة الحشر: ۹)
والايثار هو تقديم الغير علي النفس، اما الخصاصة فهي الحاجة والفقر، وتوضيح الصورة لصفة الايثار يكون في هذه الرواية التي ينقلها لنا ابان بن تغلب انه سال الامام جعفر الصادق (عليه السلام) عن حق المؤمن على المؤمن، فاجابه: يا ابان دعه لاترده، قلت: بلى جعلت فداك. فلم ازل اردد عليه فقال: يا ابان، تقاسيمه شطر مالك. ثم نظر عليه السلام الي فرأى مادخلني فقال: يا ابان، اما تعلم ان الله عزوجل قد ذكر الموثرين على انفسهم؟ قلت: بلى جعلت فداك، فقال: اما اذا انت قاسمته فلم تؤثره بعد، انما انت وهو سواء، انما توثره اذا انت اعطيته من النصف الآخر.
فالايثار ايها الاخوة الاكارم يحتل مرتبةً متميزةً في جدول الاخلاق الفاضلة، فالى كونه احساناً الي الغير، هو تفضيل للآخرين علي النفس، عطفاً عليهم وحباً للخير لهم. وهو صورة سامية من صور المشاركة الوجدانية والحسية بين المؤمن واخيه. ومن هنا سمع امير المؤمنين علي (عليه السلام) يصفه فيقول: «الايثار اعلى المكارم الايثار احسن الاحسان، واعلى مراتب الايمان. الايثار سجية الابرار، وشيمة الاخيار. كفى بالايثار مكرمة من آثر على نفسه استحق اسم الفضيلة». وجاء عن الامام محمد الباقر (عليه السلام) قوله: «لله تعالى جنة لا يدخلها الا ثلاثة: الي ان قال: ورجل آثر اخاه المؤمن في الله تعالى».
والايثار بعد ذلك ايها الاخوة الافاضل سجية الانبياء والاوصياء (عليهم السلام) وهي تتجلى في النبي وآله صلوات الله عليه وعليهم، فقد قال موسي (عليه السلام): يا رب ارني درجات محمد وامته، فقال يا موسى انك لن تطيق ذلك، ولكن اريك منزلة من منازله جليلة عظيمة، فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي... فكشف سبحانه وتعالى لموسى (عليه السلام) عن ملكوت السماء فنظر الى منزلة كادت تتلف نفسه من انوارها وقربها من الله عزوجل، فقال يارب بماذا بلغته الى هذه الكرامة؟
قال: «بخلق اختصصته به من بينهم وهو الايثار. يا موسى، لا يأتيني احد منهم قد عمل به وقتاً من عمره الا استحييت من محاسبته، وبواته من جنتي حيث يشاء».
اجل ايها الاخوة فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) المثل الاعلى في الايثار، فما سئل شيئاً فقال لا، وقد اقبل الى الجعرانة فقسم فيها الاموال وجعل الناس يسألونه فيعطيهم حتي الجاوه الي شجرة فاخذت برده وخدشت ظهره، وهم يسألونه فقال: ايها الناس، ردوا علي بردي، والله لو كان عندي عدد شجر «تهامة» نعماً لقسمته بينكم، ثم ما الفيتموني جباناً ولا بخيلاً. وكان صلي الله عليه وآله يؤثر علي نفسه البائسين والمساكين، فيجود عليهم بما عنده من مال وقوت، ويظل هو طاوياً، وربما شد حجر المجاعة على بطنه من شدة الجوع. وروي انه صلي الله عليه وآله ما شبع من خبز البر ثلاثة ايام حتي قبضه الله تعالى اليه.
وكان الامام علي (سلام الله عليه) اشبه الناس برسول الله (صلي الله عليه وآله) فكان يأكل الخبز بالزيت او الملح ويطعم الناس الخبز واللحم. وهو الذي آثر فقيراً علي نفسه حين مد يده وهو في صلاته ليتناول الفقير خاتم الامام (عليه السلام) فنزلت الآية المباركة كما اجمع المفسرون في اسباب نزولها وهي قوله تعالى: «انما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون» (المائدة: ٥٥).
ومرض الحسنان عليهما السلام يوماً فنذر امير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) ان يصوما ثلاثة ايام لله تعالى شكراً اذا عوفي ولداهما، فلما عوفيا صاما اليوم الاول فاذا وضع الخوان وقف رجل علي بابهما يقول: السلام عليكم يا اهل بيت محمد انا مسكين من مساكين المسلمين، اطعموني مما تاكلون اطعمكم الله على موائد الجنة. فوضع الامام علي (عليه السلام) اللقمة من يده وقدم الخوان الي المسكين ليبيتوا تلك الليلة جياعاً لم يذوقوا الا الماء، ويصوموا غداً، فيأتيهم يتيم فيقدموا ما عندهم له، فيبيتوا على جرعة ماء، وهكذا اليوم الثالث ياتيهم اسير فيؤثرونه على انفسهم ويطوون تلك الليلة جياعاً ايضاً لم يذوقوا غير الماء، اتماماً للنذر بعدها يهب الامين جبرئيل عليه السلام بوسام الهي يتلوه علي النبي الاكرم (صلي الله عليه وآله وسلم) فيبشر به آل علي (عليهم السلام)، وهو قوله تعالى: «ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً واسيراً / انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً / انا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً / فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً / وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً» (سورة الانسان: ۸-۱۲).
والايثار الاعظم... كان يوم بات الامام علي صلوات الله عليه ليلة هجرة النبي صلي الله عليه وآله في فراش المصطفى، وقد عرض نفسه الشريفة للقتل اذ هجم طغاة قريش عليه وهم يظنون انه رسول الله فنزل جبرئيل فرحاً بقوله تعالى: «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد» (سورة البقرة: ۲۰۷) وقد باهى الله تعالي بعلي (عليه السلام) ملائكته قائلاً لهم: «انظروا الى حجتي بعد نبيي وقد بذل نفسه، وعفر خده في التراب تواضعاً لعظمتي اشهدكم انه امام خلقي ومولى بريتي».
وعلى سر ابيهم كان ابناء امير المؤمنين (عليه السلام)... سئل الامام الحسن المجتبى(ع): لاي شي نراك لا ترد سائلاً وان كنت على فاقة؟! فقال: اني لله سائل وفيه راغب وانا استحيي ان اكون سائلاً، وارد سائلاً..
وروي عن الامام زين العابدين (عليه السلام) ان عمته العقيلة زينب (عليها السلام) كانت تودي صلواتها من الفرائض والنوافل عند سيرها في قافلة الاساري من الكوفة الى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف لانها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الاطفال.
الراوي: نقل الخوارزمي الشافعي في كتابه (مقتل الحسين عليه السلام) ان الامام الحسين عليه السلام ذهب يوماً الي بستان له، ومعه اصحابه جاء بهم ليطعمهم من ثمار بستانه، فلما دخل رأى غلاماً له اسمه «صافي» وهو ياكل خبزاً، فاخذ الامام الحسين عليه السلام ينظر اليه مستتراً من وراء نخلة و «صافي» يرفع رغيفه ويرمي بنصفه الى الكلب، ويذلك هو النصف الآخر، فاكبر الامام الحسين عليه السلام هذا الايثار من غلامه وخادمه «صافي» الذي قال بعد ان اكمل اكل قرصة.
صافي: الحمد لله رب العالمين، الله اغفر لي واغفر لسيدي، وبارك له كما باركت على ابويه (علي وفاطمة) برحمتك يا ارحم الراحمين.
الراوي: فقام الامام الحسين عليه السلام واقبل على «صافي» يناديه، يا صافي يا صافي
صافي: يا سيدي وسيد المؤمنين اني ما رأيتك فاعف عني.
الراوي: فقال له الحسين سلام الله عليه: اجعلني في حل يا صافي، لاني دخلت بستانك بغير اذنك. فقال «صافي»:
صافي (بحياء): بفضلك يا سيدي وكرمك وسؤددك تقول هذا.
الراوي: فسأله الامام الحسين (عليه السلام): رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب، وتأكل النصف الآخر فما معنى ذلك؟
صافي: سيدي، ان هذا الكلب ينظر الى حين آكل، فاستحيي منه يا سيدي لنظره الي، وهو كلبك الذي يحرس بستانك من اللصوص، فانا يا سيدي مملوكك وهذا كلبك فاكلنا رزقك معاً.
الراوي: فبكى الامام الحسين (عليه السلام) وقال لغلامه: انت عتيق الله وقد وهبت لك الفي دينار بطيبة من قلبي.
صافي: سيدي ان اعتقتني فانا اريد القيام ببستانك.
الراوي: فقال له الامام الحسين (عليه السلام) ان الرجل اذا تكلم بكلام فينبغي ان يصدقه بالفعل، فانا قد قلت: دخلت بستانك بغير اذنك، فصدقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك، غير ان اصحابي هؤلاء جاووا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم اضيافاً لك، واكرمهم من اجلي اكرمك الله يوم القيامة، وبارك الله لك في حسن خلقك وادبك.
صافي: سيدي يا ابن رسول الله ان وهبت لي بستانك، فانا قد جعلته سبيلاً مباحاً لاصحابك وشيعتك ومحبيك كرامة لك يا سيدي.