الحمدلله ولي الاحسان، والصلاة والسلام على محمد وآله الهداة الى الجنان.
اخوتنا وأعزتنا المستمعين الأكارم... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في همسة اخرى سيكون موضوعها حول «التواضع» الذي يعرفه الامام جعفر الصادق عليه السلام بقوله:
التواضع اصل كل شرف نفيس ومرتبة رفيعة... والتواضع ما يكون لله، وفي الله، وما سواه مكر، ومن تواضع لله، شرفه الله على كثير من عباده، ولأهل التواضع سيماء يعرفها أهل السماوات من الملائكة، وأهل الارض من العارفين، قال الله عزوجل: «وعلى الاعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم» (الأعراف: ٤٦). واصل التواضع من اجلال الله وهيبته وعظمته وليس لله عزوجل عبادة يرضاها ويقبلها الا وبابها التواضع، ولا يعرف ما في حقيقة التواضع الا المقربون من عباده المتصلين بوحدانيته، قال الله عزوجل: «وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هوناً، واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما» (الفرقان: ٦۳). وقد امر الله عزوجل خير خلقه، وسيد بريته، محمداً صلى الله عليه وآله فقال عزوجل: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين» (الشعراء: ۲۱٥). والتواضع مزرعة الخشوع والخضوع، والخشية والحياء،... ولا يسلم الشرف التام الحقيقي الا للمتواضع في ذات الله تعالى.
اخوتنا الأكارم، اذا كان للأشياء صور، فإن للتواضع صوره، منها: أن يرضى المرء بالجلوس دون صدر المجلس وشرفه وان يسلم على من يلقى، وأن يترك المراء وان كان محقاً، فلا يجادل ليغلب المقابل وان كان أعلم منه، وان لا يحب ان يحمد على التقوى، وأن يعطي الناس ما يحب ان يعطوه. وقد سئل الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن حد التواضع الذي اذا فعله العبد كان متواضعاً فأجاب: التواضع درجات، منها: أن يعرف المرء قدر نفسه، فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي الى أحد الا مثل ما يؤتى اليه، ان رأى سيئةً درأها بالحسنة، كاظم الغيظ، عاف عن الناس، والله يحب المحسنين.
اجل أيها - الاخوة الأعزة- وقد مدح الله تعالى المؤمنين، فكان مما عدده من صفاتهم: التواضع، فقال عز من قائل: «يا ايها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، اذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين» (المائدة: ٥٤). وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: لا حسب الا بتواضع وعن امير المؤمنين عليه السلام قوله: التواضع أفضل الشرفين. عليك بالتواضع فانه من أعظم العبادة.
وفيما أوحى الله تعالى الى داود عليه السلام: «يا داود، كما أقرب الناس الى الله المتواضعون، كذلك أبعد الناس من الله المتكبرون»
واذا كان لكل خلق ثمرته، فما ثمرة التواضع - أيها الاخوة-؟
قال النبي صلى الله عليه وآله: «تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد. ان التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله».
وقال الامام علي عليه السلام: «بخفض الجناح تنتظم الامور. التواضع يكسوك المهابة. التواضع يكسبك السلامة. ثمرة التواضع المحبة».
وعن الامام موسى الكاظم عليه السلام قال: «ان الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا (أي الصخر) فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبر الجبار، لأن الله جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر من آلة الجهل».
وهنا - أيها الاخوة الاحبة- لابد أن نعلم أن التواضع صفة حسنة ممدوحة بشرط ألا يكون التواضع مع المتكبرين والكافرين والفاسقين والظالمين، انما يكون التواضع لله تعالى اولاً، وثانياً يكون في الله تعالى، أي يتواضع المرء لوالديه ولمن هو اكبر منه، وعلى الخصوص للمؤمنين، والآية واضحة في ذلك، وهي قوله تبارك وتعالى: «اذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين» وقد جاء عن النبي المصطفى صلى الله عليه وآله: «طوبى لمن تواضع لله تعالى في غير منقصة»... كما جاء عن الامام علي عليه السلام قوله: «من أتى غنياً فتواضع له لغناه، ذهب ثلثا دينه».
ولنا أيها الاخوة المؤمنون أسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وآله، فقد واجه طغاة قريش وجبابرتها، وحارب المستكبرين والظالمين، ولكنه كان بين المسلمين: يعود المريض، ويشيع الجنائز، ويجيب دعوة المملوك.. وفي بيته كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاه، ويكنس فناء الدار، ويأكل مع خادمه ويطحن معه، وكان يحمل بضاعته من السوق الى أهله، ويجالس الفقراء، ويحادث المستضعفين، ويصافح الاطفال ويرفق بالناس جميعاً، ويسلم على كل من يلقاه، ويمشي على الارض هوناً خافض الطرف... وعلى سيرته كان أهل البيت عليهم السلام، فمما روي: أن امير المؤمنين علياً عليه السلام زاره أخوان له مؤمنان: أب وابنه فقام عليه السلام اليهما وأكرمهما، وأجلسهما في صدر مجلسه وجلس بين أيديهما، ثم أمر لهما بطعام فأحضر، فأكل معهما، ثم جاء خادمه «قنبر» بطست وإبريق ومنديل، ليصب على يد الرجل الضيف، فوثب امير المؤمنين عليه السلام وأخذ الابريق ليصب على يد الرجل، فتمرغ الرجل في التراب وقال: يا امير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي؟
قال: اقعد واغسل، فان الله عزوجل يراك واخوك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عليك يخدمك، يريد بذلك في خدمته في الجنة، مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا، وعلى حسب مماليكه فيها.
ثم أقسم عليه السلام على ضيفه أن يغسل يده مطمئناً كما لو كان الصاب عليه قنبر، ففعل الرجل، فلما فرغ، ناول الامام عليه السلام الابريق ابنه محمد بن الحنفية وقال له:
يا بني، لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن الله عزوجل يأبى أن يسوى بين ابن وأبيه اذا جمعهما مكان، ولكن قد صب الاب على الأب، فليصب الابن على الابن. فصب محمد بن الحنفية على الابن الضيف.
الراوي: يحتاج المتكبر أحياناً الى تذكرة خاصة، فمن طريف ما يحكى في ذلك، أن مطرف بن عبد الله رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز فاخرة، فصاح عليه:
مطرف: يا عبد الله، اما علمت بان هذه مشية يبغضها الله ورسوله؟!
المهلب: أما تعرفني يا هذا؟!
مطرف: بلى بلى، أعرفك... أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وانت فيما بين ذلك تحمل العذرة!
الملبب: فذهب المهلب خجلاً، وترك هذه مشيته تلك.
الراوي: أرسل النجاشي ملك الحبشة رضوان الله عليه الى جعفر الطيار بن أبي طالب رضي الله عليه وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في غرفة له جالس على التراب، وعليه ثياب بسيطة جداً...
النجاشي: الحمدلله الذي نصر محمداً وأقر عينه، الا أبشركم؟
جعفر: بلى، بلى أيها الملك؟ بماذا؟!
النجاشي: انه جاء في هذه الساعة من نحو أرضكم مخبر من مخبرينا هناك، فأخبرني أن الله عزوجل قد نصر نبيه محمداً وأهلك عدوه.. التقوا بواد يقال له «بدر» كثير الاراك،لكأني أنظر اليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك.
جعفر: أيها الملك، فمالي أراك جالساً على التراب، وعليك هذه الخلقان من الثياب؟!
النجاشي: يا جعفر، انا نجد فيما أنزل الله على عيسى، أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعاً عندما يحدث لهم من نعمة فلما أحدث الله تعالى لي نعمةً بمحمد أحدثت لله هذا التواضع.
الراوي: وكان النجاشي رحمة الله قد أسلم، وتعلق قلبه بالنبي صلى الله عليه وآله وآوى المهاجرين الى الحبشة، جعفراً واصحابه، وأكرمهم وحماهم من كيد قريش ومكرها ... فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله ما قاله النجاشي رضوان الله عليه، قال صلي الله عليه وآله لأصحابه: ان الصدقة تزيد صاحبها كثرة، فتصدقوا يرحمكم الله. وان التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرحمكم الله . وان العفو يزيد صاحبه عزاً فاعفوا يعزكم الله.