بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله على جميع نعمه وآلائه، وأشرف صلواته على سيد رسله وأنبيائه، وعلى آله الهداة خلفائه وأوصيائه.
اخوتنا المستمعين الطيبين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم في موضوع هامس آخر، يهتف بالقلوب الى فضيلة اخلاقية عالية وهي «القناعة»... وليست هذه الخصلة باليسيرة، فالله تعالى يقول:
«ان الانسان خلق هلوعا/ اذا مسه الشر جزوعا/ واذا مسه الخير منوعا/ الا المصلين/ الذين هم على صلاتهم دائمون/ والذين في أموالهم حق معلوم/ للسائل والمحروم/ والذين يصدقون بيوم الدين/ والذين هم من عذاب ربهم مشفقون..» صدق الله العلي العظيم (سورة المعارج ۱۹-۲۷).
ان كل ما في الوجود - أيها الاخوة- هو ملك لله تعالى، يهب منه ما يشاء، الى من يشاء، الى متى يشاء، لحكمة وامتحان، وهو القائل عز من قائل: «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير/ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور» (سورة الملك:۱-۲).
فمشيئة الباري جل وعلا اقتضت أن يمتحن العباد في أرزاقهم، أيشكرون ام يكفرون؟ ايبذرون ام يقترون ام يقتصدون؟ أيعطون أم يبخلون؟ ثم أيقنعون أم يسخطون؟
ان الله تبارك وتعالى - اخوتنا الافاضل- ارادنا أن نكون له شاكرين، ومن معاني الشكر أن نكون بقسمه راضين، متزنين في مجرى الاقدار الالهية، بعيدين عن الحرص والتبذير، وكل افراط او تفريط... يدعو الامام زين العابدين عليه السلام ربه سبحانه فيقول: اللهم صل على محمد وآله، واحجبني عن السرف والازدياد (أي عن تجاوز حد الاعتدال)، وقومني بالبذل والاقتصاد، وعلمني حسن التقدير، واقبضني بلطفلك عن التبذير...
ان المال - أيها الاخوة الاعزة- امر مرغوب، يجب أن نسعى في تحصيله لقضاء الحوائج ومستلزمات المعيشة، ولكن ليكن سعينا في جمعه مجملين، نتحرى مسائل الحلال والحرام، ثم نقنع بكل ما يقدر الله تعالى لنا.
واذا قدر لنا رزق وجهناه في مرضاة الله تعالى، وادينا حقوقه، وانفقناه في محله، فلا نهلع حريصين على جمع الاموال بشكل طائش، ولا نجزع ان قتر الرزق علينا ولا نمنع اذا وصل الخير الينا. فاذا سعينا في ذلك هبطت علينا الهبة الربانية، قال تعالى:
«من عمل صالحاً من ذكر أو انثى فلنحيينه حياةً طيبة» (سورة النحل: ۹۷).
روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال في معنى الحياة الطيبة، انها القناعة والرضى بما قسم الله تعالى.
وتتجسد حالة القناعة عند المؤمن في: التفاؤل وبسط الوجه، وعدم الشكوى او التفاقر، كذا وصف الله تعالى أهل القناعة والعفة فقال: «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس الحافاً» (سورة البقرة: ۲۷۳).
والقانع - أيها الاخوة- على درجة من الايمان وحسن الظن بالله تعالى، والثقة به في كل احواله، فهو يعلم ان الله عزوجل لا يمنع الا لمصلحة العبد وهو العزيز الحكيم، يهب لحكمة، ويمنع لحكمة، ويقدر الأرزاق لحكمة، فلا داعي للهم والضجر والاعتراض والسخط، انما المرء مأمور بالسعي، والامور تجري بأمر الله تعالى وارادته وحكمته.
سئل الامام الصادق عليه السلام: على ماذا بنيت امرك يا ابن رسول الله؟ فقال: على أربع: الاولى: علمت ان عملي لا يعمله غيري، فاجتهدت. الثانية: علمت ان الله مطلع علي، فاستحييت. الثالثة: علمت ان رزقي لا يأكله غيري، فاطمأننت. الرابعة: علمت أن آخر امري الموت، فاستعددت.
ومن صفات القانع - أيها الاخوة الاحبة- انه انسان متزن، لا تقلقه الوساوس الشيطانية، ولا الأوهام النفسية بل قلبه مطمئن بالله تعالى وهو أرحم بعباده من أنفسهم، وروحه متوجهة الي الآخرة، ليس للدنيا سلطان حاكم على قلبه في جميع أموره، فالدنيا زائلة عما قريب، وانما المعول عليه تلك الحياة الأبدية، والربح فيها بالايمان، ومن الايمان القناعة والرضى عن الله تعالى.
يقول امير المؤمنين علي عليه السلام: نعم حظ المرء القناعة. طوبى لمن ذكر المعاد، وعمل للحساب، وقنع بالكفاف، ورضي عن الله.
ثم القناعة - ايها الاخوة الافاضل- تأتي بخصال أخرى كريمة، تبينها النصوص الشريفة التالية:
قال الامام علي عليه السلام: «من قنعت نفسه، اعانته على النزاهة والعفاف. القناعة رأس الغنى. كفي بالقناعة ملكاً. من عز النفس لزوم القناعة. ثمرة القناعة العز. أعون شئ على صلاح النفس: القناعة».
وقد سئل الامام الرضا عليه السلام عن القناعة فقال: القناعة تجتمع الى صيانة النفس، وعز القدر... ولا يسلك طريق القناعة الا رجلان: اما متعبد يريد أجر الآخرة، أو كريم متنزه عن لئام الناس.
كتب المنصور العباسي يوماً الى الامام الصادق عليه السلام: لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ فأجابه عليه السلام: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا انت في نعمة فنهنيك بها، ولا في نقمة فنعزيك بها. فكتب المنصور: تصحبنا لتنصحنا. فقال الامام الصادق عليه السلام: «من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك».
وفي القناعة قال أبوفراس الحمداني:
ان الغني هو الغني بنفسه
ولو انه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافياً
فاذا قنعت فكل شيء كاف
الراوي: نفى الخليفة الثالث الصحابي الجليل أباذر الغفاري الى الربذة بعيداً عن الناس، فعاش غريباً وحيداً حتى توفاه الأجل. وقد أراد يوماً ما أن يجذبه الى أجواء حاكميته، إلا أن أباذر كان مع شديد فقره قنوعاً ابياً عزيز النفس. أرسل عثمان عبداً مملوكاً له بكيس من الدراهم الى أبي ذر وقال للعبد: ان قبل أبوذر منك هذا فأنت حر طليق.
العبد: السلام عليك يا اباذر.
اباذر: وعليك السلام.
العبد: ارسل الخليفة الثالث عثمان لك هذا الكيس من الدراهم، ارجو ان تقبل منه.
اباذر: لا والله لا اقبله.
العبد: اقبل هذا مني يا اباذر، فان فيه عتقي.
ابوذر: نعم ولكن فيه رقي!
الراوي: كان الخليل بن احمد الفراهيدي يعاني الضر والفقر بين حساده في البصرة وقد وجه سليمان بن علي العباسي اليه ولده من الأهواز لتأديبه.
الخليل: اهلاً اهلاً بضيفنا الغريز تفضل كل. فما عندي غير هذا الخبز، وما دمت اجد مثل هذا الخبز فاني قانع والحمدلله فلاحاجة لي الى سليمان.
المبعوث: اذن قل لي يا خليل ما ابلغ مولاي سليمان العباسي.
الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة
وفي غنى غير اني لست ذا مال
والفقر في النفس لا في المال أعرفه
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه
ولا يزيدك فيه حول محتال!
الراوي: كان ديوجانيس من أساطين حكماء اليونان، وكان قانعاً زاهداً، لا يقتني شيئاً، فدعاه يوماً الاسكندر الى مجلسه قائلاً لمبعوثه:
الاسكندر: أيها الرجل، قل لديوجانيس أن يأتينا.
الرجل: حسناً يا سيدي.
الراوي: فذهب مبعوث الاسكندر الى ديوجانيس وبلغه رسالة قائده فأجابه.
ديوجانيس: أيها الرجل، قل لسيدك: ان الذي منعك من المسير الينا، هو الذي منعنا من المسير اليك. منعك استغناؤك عنا بسلطانك، ومنعنا استغناؤنا عنك بقناعتنا!