الحمد الله المخرج عباده من الظلام، وافضل صلواته على رسوله اشرف الانام، وعلى آله الائمة الكرام.
اخوتنا واعزتنا المستمعين الافاضل.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً ومرحباً بكم في همسة جديدة، وعنوان جديد هو "حسن الجوار"، الذي يعتبر من المواضيع الحيوية التي نعايشها يومياً، بل وكل ساعة، فهو امر اجتماعي حساس، واخلاقي مهم، حتى ان رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله اين يشتري داراً اذا خيِّر، فأجابه: الجار، ثم الدار.. الرفيق، ثم السفر.
ومن مؤشرات حسن الجوار التقوى، بل والايمان ايضاً، لان المؤمن هو الذي يعي حرمة الجوار ويرعاها، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: حرمة الجار على الانسان كحرمة امِّه. ما تأكدت الحرمة بمثل المصاحبة والمجاورة، كذا جاء قوله صلى الله عليه وآله آمراً: "احسن مجاورة من جاورك، تكن مؤمناً".. فحسن الجوار اذن احدى علامات الايمان.
ولعل سائلاً يقول: ما هو حد الجوار؟ نعم، جواب ذلك نتلقاه من أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث يقول: "حريم المسجد اربعون ذراعاً، والجوار اربعون داراً من اربعة جوانبها". اجل.. هؤلاء هم جيران المرء، يعني ان يحسن معهم جواره، فقد تأكدت فيهم وصية الله تعالى ورسوله الذي قال: "ما زال جبرئيل يوصيني بالجار.. حتى ظننت انه سيورثهم"، وكان من آخر وصايا الامام علي عليه السلام وهو على فراش الشهادة قوله: "الله الله في جيرانكم، فانه وصية نبيكم، مازال يوصي بهم حتى ظننا انه سيورثهم".
اخوتنا الاعزة الاكارم.. بعد ان عرفنا ان الله تعالى امر بحسن الجوار، تعين علينا ان نعرف ما هي حقوق الجار اولاً، وكيف يكون حسن الجوار ثانياً.. يقول علماء الاخلاق:
من حقوق الجوار ان يساس الجار باللطف وحسن المداراة، كأبتدائه بالسلام، وعيادته في مرضه، وتهنئته في افراحه، وتعزيته في مصائبه، وعدم التطلع الى حرمه، والاغضاء عن هفواته، وكف الاذى عنه، واعانته ونصحه، والتعامل معه بالاخلاق الطيبة الحميدة.
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الوصايا في حقوق الجار: "ان استغاثك اغثه، وان استقرضك اقرضه، وان افتقر عدت اليه، وان اصابه خير هنأته، وان مرض عدته، وان اصابته مصيبة عزيته، وان مات تبعت جنازته، ولا تستطيع عليه بالبناء فتحجب عنه الريح الا باذنه، وان اشتريت فاكهة فاهدها له، وان لم تفعل فادخلها سراً ولا يخرج بها ولدك يغيط بها ولده، ولا تؤذه بريح قدرك الا ان تغرف له منها".
وفي "رسالة الحقوق" نقرأ قول الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "اما حق جارك، فحفظه غائباً، واكرامه شاهداً، ونصرته اذا كان مظلوماً، ولا تتبع له عورة، فان علمت عليه سوءً سترته عليه، وان علمت انه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تسلمه عند شديدة، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة".
واما حسن الجوار، فذلك اسمى.. جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وآله يقول: ان فلانا جاري يؤذيني، فاوصاه صلى الله عليه وآله: اصبر على أذاه كف اذاك عنه.
وعن الامام علي عليه السلام قال: "من حسن الجوار، تفقد الجار". اما الامام موسى الكاظم عليه السلام فيقول: "ليس حسن الجوار كف الاذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الاذى".
والان اخوتنا الاحبة، لنعلم ان كل الذي جاء في الوصية بالجار عائد بالخير علينا وعلى من يجاورنا قريباً او بعيداً، وعلى المجتمع والامة، فمراعاة الامر الالهي في الجار يضمن الامان والاطمئنان، وياتي بالعوائد الطيبة.. فالامام الصادق عليه السلام يقول: "حسن الجوار يزيد في الرزق. حسن الجوار يعمر الديار، ويزيد في الاعمار". ويبلغ الامر بحسن الجوار درجة عالية، تنزل فيها الرحمة، فقد روي ان عابداً مؤمناً في بني اسرائيل كان له جار كافر، ولكن هذا الكافر كان يرفق بالمؤمن ويوليه المعروف، فلما مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين، فكان يقيه حرها، ويأتيه رزقه من غيرها.. وقيل له: هذا بما كنت تدخل على جارك من الرفق، وتوليه من المعروف في الدنيا.
وفي المقابل ايها الاخوة الاكارم، لابد ان نعلم ان ايذاء الجار فيه حرمة كبيرة.. حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلايؤذ جاره". وقد شكا رجل من الانصار انه لا يرجو خير جاره، ولا يأمن شره، فأمر النبي صلى الله عليه وآله بعض اصحابه ان ينادوا في المسجد باعلى اصواتهم "ان لا ايمان لمن لم يأمن جاره بوائقه"!.
بل جاء عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: "ملعون ملعون من آذى جاره". وعن الامام الرضا سلام الله عليه انه قال: "ليس منا من لم يأمن جاره بوائقه" أي شروره. نعم، والله تعالى يوصي بالاحسان مع الجار قائلاً: "وبالوالدين احساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت ايمانكم.." (النساء: ۳٦).
قيل: الجار ذو القربى: أي الجار القريب، اما الجار الجنب: فهو الجار البعيد.
الراوي: من طريف ما يحكى في حسن الجوار .. ان رجلاً كان جاراً لابي دلف ببغداد، فادركته فاقة، وركبه دين فادح احتاج معه الى بيع داره، فساومه المشترون..
رجل: كم سعر دارك. البائع الف دينار
رجل: ان دارك لا تساوي الا خمسمائة دينار، فكيف تطلب الفاً؟ هذا من الانصاف؟
البائع: نعم.. هي تساوي خمسمائة دينار حقاً، ولكن جوار جاري ابي دلف ابيعه بخمسمائة دينار ايضاً، فيكون الدار يساوي الفاً. اجل، فان مشتري داري سيكون له جار خير.
ابو دلف: سمعت ما قلته يا جاري لا تنتقل يا رجل من جوارنا، ما دمت احسنت الظن بنا.
الراوي: كان رجل اسمه "بهلول" قد اصابه الجوع ثلاثة ايام، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله انه قال: "ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع". فوسوس الشيطان لبهلول ان جارك رجل ذو مال كثير، فتسلق عليه داره وخذ كيساً من دراهمه، ثم تب بعد ذلك الى الله تعالى.. فقام بهلول فتسلق دار جاره ودخل بيته، ثم اخذ كيساً من الدراهم، وهنا رجع الى نفسه..
بهلول "مع نفسه": سؤةً لك يا بهلول سوءةً لك!
بهلول: يا اهل الدار، خذوا اللص قبل ان يهرب!
صاحب الدار: اين اللص يا هذا؟
بهلول: ها انا ذا يا رجل اللص انا!
بهلول: اذهبوا بي الى السلطان.
صاحب الدار: معاذ الله.. معاذ الله يا بهلول ان يكون مني ذلك، ولكن أسألك: ما الذي حملك على هذا؟!
بهلول: حملني على هذا جوع ثلاثة ايام عجاف، ووسوسة شيطان من الله لا يخاف!
صاحب الدار: والله انه ليعز عليّ ـ يا بهلول ـ ان يصيب جاراً مثلك جوع.. اعذرني وانت جاري.
الراوي: ثم قدم صاحب الدار مالذّ وطاب من الطعام لبهلول، واجرى له راتباً شهرياً بعد ان طيب خاطره.