الحمد لله واهب النعم، وافضل الصلاة والسلام على سيد البشر والامم، وعلى آله الهداة اصول الكرم.
اخوتنا المستمعين الاكارم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله، واهلاً بكم في هذا الحديث الطيب معكم، وهو دائر حول صفة يحبها كل الناس، وخلق يحترمه جميع البشر ذلك هو "الوفاء".
والوفاء خصلة يتعامل بها الانسان مع الله تعالى فنجده يلبي نداء الله جل وعلا في عبادته، وفي الاوامر الالهية والاحكام الشرعية، ويتعامل بها مع اسرته واقربائه، واخوانه وعامة الناس، لا يعطي عهداً الا ويفي به، ولا يبرم عقداً الا ويؤدي شروطه كاملة، ولا يعد احداً الا ويصدقه وعده.. بل يتعامل الانسان بالوفاء حتى مع نفسه، فيوردها موارد الخير والصلاح، ولا يخونها بان يرديها في مواقع الشر والهلكة والرذيلة.
وللوفاء فضله وشرفه، حتى قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: "ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، واقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم اذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون" صدق الله العلي العظيم (سورة البقرة: ۱۷۷).
فالاوفياء ـ ايها الاخوة ـ هم اهل البر واهل الصدق وهم المتقون ويبلغ الوفاء من الشرف ان يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: اقربكم غداً مني في الموقف: "اصدقكم للحديث، واداكم للامانة، واوفاكم بالعهد، واحسنكم خلقاً، واقربكم من الناس".
لماذا كل هذا التمجيد ـ ياترى ـ بخصلة الوفاء؟ لابد ان للوفاء اثراً في باطن المرء وسلوكه وتوجهه الروحي، وهو في ذاته علامة مهمة في شخصيته الدينية.. فالنبي صلى الله عليه وآله يقول: .. اجل فالمؤمن دائماً يراقب نفسه، ويستشعر في الوقت ذاته ان الله تعالى رقيب على افعاله واقواله.
ومن هنا يقول الامام علي عليه السلام: من دلائل الايمان، الوفاء بالعهد. تعالوا ايها الاخوة الاعزة هنا، لنستمع الى تعريف امير المؤمنين عليه السلام للوفاء فهو يقول: "الوفاء حلية العقل، وعنوان النبل، الوفاء عنوان وفور الدين، الوفاء حصن السؤدد، الوفاء حفظ الذمام، الوفاء توأم الصدق".
ومن هنا نفهم ان الوفاء مبنى مهم في الشخصية الايمانية فعليه يقول في اداء الحقوق والواجبات والعقود والمعاملات وحتى التكاليف الشرعية والوظائف الدينية والالتزامات الاخلاقية.
جاء احدهم فقال للامام علي بن الحسين عليه السلام: اخبرني بجميع شرائع الدين، فاجابه سلام الله عليه على وجه الايجاز وقد اوقفه على المباني الكبرى فقال: قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد.
ولاهمية الوفاء بالعهد ـ ايها الاخوة الافاضل ـ جاء فيه التأكيد والامر الالهي في آيات عديدة، واحاديث شريفة كثيرة، منها:
قوله تعالى: "يا ايها الذين آمنوا اوفوا بالعقود.." (سورة المائدة:۱).
وقوله تعالى: "واوفوا بالعهد ان العهد كان مسؤولاً" (سورة الاسراء: ۳٤).
وهكذا يؤكد القرآن الكريم على الوفاء بالعقد والعهد بجميع معانيه وفي جميع مصاديقه ويشدد فيه كل التشديد ويذم الناقضين للمواثيق ذماً بالغاً، ويوعدهم ايعاداً عنيفاً. فالاسلام يضع للعهد حرمة يوجب على الناس رعايتها والوفاء بها على الاطلاق، سواءً انتفع المتعهد او تضرر بعدما اوثق الميثاق، فان رعاية جانب العدل الاجتماعي الزم واوجب من رعاية المصالح الشخصية.
الى درجة ان الامام جعفر الصادق عليه السلام قال: "برين كانا او فاجرين، ووفاء العهد بالبر والفاجر، واداء الامانة الى البر والفاجر".
واما الغدر ونقض العهد ـ ايها الاخوة الاحبة - فذاك مما حذر الاسلام منه غاية التحذير، حتى وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله هكذا: اربع من كن فيه فهو منافق، وان كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: "من اذا حدث كذب، واذا وعد اخلف، واذا عاهد غدر، واذا خاصم فجر".
ويكفي في هذه الصفة الرذيلة ان ينال بهما المرء عقوبتين واحدة معنوية والاخرى مادية.. او واحدة دنيوية وواحدة اخروية.
داء فيما اوصى به امير المؤمنين عليه السلام واليه على مصر مالك الاشتر ان كتب له اياك والمنَّ على رعيتك باحسانك، او التزيد فيما كان من فعلك، او ان تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فان المن يبطل الاحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله وعند الناس، قال الله سبحانه: "كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون" (صورة الصف:۳).
وقال عليه السلام منبهاً: "لا تعتمد على مودة من لا يوفي بعهده" وختاماً: ما احرى بالمرء المؤمن، ان يتعلم الوفاء في كل عهوده، ويلتزم بما يقول ويعد الاخرين، وما احرى بنا ان نتصف بالوفاء في عقائدنا وموالاتنا لله تعالى، ولرسول الله صلى الله عليه وآله، ولاهل البيت عليهم السلام نتعاهدهم بالزيارة وحسن الذكر واحياء امرهم صلوات الله عليهم.
الراوي: التقى معاوية بن ابي سفيان بالزرقاء بنت عدي بن غالب وكانت محبة لاهل البيت عليهم السلام، موالية للامام علي عليه السلام، مناصرة له، وفية في ولائها، فاراد معاوية عتابها وقد وقفت الى جانب معسكر امير المؤمنين عليه السلام في صفين تؤيده ضد معاوية.
معاوية: هل تذكرين يا زرقاء انك كنت تحرضين على قتالنا؟
الزرقاء: نعم.. نعم يا معاوية اذكر ذلك.
معاوية: فما حملك على ذلك؟
الزرقاء: انه امر قد مضى ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر ابصر، والامر يحدث بعده الامر.
معاوية، صدقت يا زرقاء فهل تذكرين ما قلت يوم صفين؟
الزرقاء: لا والله، لقد كبرت فنسيته.
معاوية: لله ابوك لقد سمعت انك كنت تقولين لعسكري: ايها الناس ارعوا وارجعوا انكم اصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيالها فتنة عمياء صماء بكماء، .. الا من استرشد استرشدناه، ومن سألنا اخبرناه امسك ام اكمل؟
الزرقاء: كما تحب.
معاوية: كنت تقولين: ايها الناس، ان الحق كان يطلب ضالته فاصابتها..
الزرقاء مع نفسها: أي والله، ذلك امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.
معاوية يكمل: وكنت تقولين فصبراً يا معشر المهاجرين والانصار على الغصص، فكأنكم وقد التأم شمل الشتات وظهرت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فانه لا يستوي المحق والمبطل، "افمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون".
الزرقاء مع نفسها همساً: أي والله، وهل يستوي امير المؤمنين علي غيره لا والله.
معاوية: وكنت يا زرقاء تحرضين علينا وتقولين أأذكرك بما كنت تقولين؟
الزرقاء: كيفما تريد وتحب.
معاوية: كنت يا زرقاء تؤلبين علينا فتقولين النزال النزال، والصبر الصبر، الا ان خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير الامور عاقبة، فائتوا الحرب غير ناكصين، فهذا يوم له مابعده.
معاوية: ايه يا زرقاء لقد شركت علياً في كل دم سفكه.
الزرقاء باستهزاء: احسن الله بشارتك يامعاوية، فمثلك من يبشر بخير ويسر جليسه.
معاوية بتعجب: وقد سرك ذلك يا زرقاء؟
الزرقاء: اجل والله لقد سرني ذلك.
معاوية: والله لوفاؤكم له بعد موته، اعجب عندي من حبكم له في حياته.