الحمد لله اناء الليل والنهار، واشرف الصلوات على النبي المختار، وعلى آله الهداة الابرار.
اخوتنا الاعزة المؤمنين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم في رحلة فكرية روحية، اخرى، نصنت فيها معاً الى همسات اخرى في شغاف القلب، وحديث جديد يتناول موضوع "الورع".
ابتداءاً ـ ايها الاخوة ـ نقف على رواية يرويها الشيخ الكليني في كتابه "الكافي" عن الامام جعفر الصادق عليه السلام انه قال: "انما الامور ثلاثة: امر بين رشده فيتبع، وامر بين غيه فيجتنب، امر مشكل يرد علمه الى الله ورسوله.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن اخذ بالشبهات ارتكب المحرمات.. وهلك من حيث لا يعلم"، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله ايضاً قوله: "ان لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما لو ان راعياً رعى الى جانب الحمى، لم تلبث غنمه ان تقع في وسطه، فرعوا المشتبهات".
اجل ـ ايها الاخوة الاكارم ـ ففي الشبهات يتبين الورع عند المرء يتجلى ذلك في وصية للامام الصادق عليه السلام، اذ يقول فيها لاحد اصحابه: "اوصيك بتقوى الله والورع والاجتهاد، واعلم انه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه".
وهنا لعله يتبين ان الورع غير التقوى، لذا نقرأ للشيخ المجلسي بيانه بعد ذكره لهذا الحديث الشريف، حيث كتب: لعل المراد بالتقوى ترك المحرمات، وبالورع ترك الشبهات، بل وبعض المباحات، فالورع في الاصل هو الكف عن المحارم والتحرج منها واكثر من ذلك، لان امير المؤمنين علياً عليه السلام يقول: "الورع الوقوف عند الشبهة". ويعرف الامام الصادق عليه السلام الورع فيقول: "الذي يتورع عن محارم الله ويجتنب هؤلاء (وأشار الى جماعة)"، ثم قال: "واذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه".
ومن هنا لا تنفع العبادة ولا الاجتهاد فيها اذا لم يصحبها ورع يصد عن الحرام، ويجنب عن الشبهة، لان الورع هو اشد العبادة كما يعرفه الامام الباقر عليه السلام، وبدونه لاينفع اجتهاد فيها كما يصرح الامام الصادق عليه السلام.
وقد ناجى الله تعالى موسى عليه السلام فقال له: "يا موسى ابلغ قومك انه ما تعبد لي المتعبدون بمثل الورع عن محارمي".
بل ترك الورع لا يهدد العبادة فحسب، انما يهدد الايمان ايضاً، فقد سئل الامام علي عليه السلام: ما ثبات الايمان؟ فقال: "الورع".
ومن بعده قال الامام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: "الورع نظام العبادة فاذا انقطع الورع ذهبت الديانة".
فالورع ـ اخوتنا الافاضل ـ ميزان التدين، وهو الوقوف عند الشبهة، والتحرج من الامور التي لم يتضح فيها حكم، فيتوقف الورع هنا ويحتاط ويتجنب ويتنزه، ويتقي ويبتعد، ويعطي من امواله ونفسه ما يبرئ به ذمته، ويفرغ عنها تكليفاً محتملاً او يتخلص من اثم مظنون في مأكل او مشرب، او ملبس او مسكن او مكسب، فلا يهجم على شيء من ذلك قبل ان يسأل ويثبت ويتأكد حتى يطمئن صيانة لدينه، وحفاظاً على ايمانه، وتجنباً من كل حرام ولو كان مظنوناً او محتملاً.
وقد كان من وصايا الامام جعفر الصادق سلام الله عليه قوله: "اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع".
قال الشيخ المجلسي: يدل هذا على ان بترك الورع عن المحرمات، يصير الايمان في معرض الضياع والزوال، فان فعل الطاعات وترك المعاصي حصون للايمان من ان يذهب به الشيطان.
الراوي: اقبل شاب على جدول ماء ليملأ قربته منها فرأى تفاحة تجري مع الماء، فالتقطها واكل بعضها.. ولكنه توقف عن الاكل فجأة، واخذ يفكر..
الشاب يهمس مع نفسه: كيف سمحت لنفسي ان آكل هذه التفاحة ولم اكن استأذنت من صاحب البستان؟
الراوي: واخذ يعاتب ضميره على عمل لا ينبغي صدوره من متدين ورع، لذا فكر ان يمشي بالاتجاه المعاكس لجريان الماء كي يتعرف على صاحب التفاحة، حتى لقي صاحب المزرعة وكان عليه سيماء الصالحين.
الشاب "بتردد": السلام عليكم يا عم.
الرجل: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته تفضل.
الرجل: عفواً يا عم، كنت قد عثرت على تفاحة منسابة مع الماء، فاكلتها، لا، اكلت بعضها، وهذا ما تبقى، ولم اكن قد استاذنتك يا عم ارجو ان تغفر لي ذلك وترضى عني.
الرجل: كلا.. لا ارضى عنك حتى..
الرجل: اعطيك ثمنها.
الرجل: لا لا اقبل بذلك..حتى..
الراوي: وبعد اصرار الشاب والحاحه على معرفة ما يبرئ ذمته وافق المزارع ان يرضى بشرط واحد.
الرجل: وما هو هذا الشرط يا عم؟
الرجل عندي ابنة: : عمياء صماء خرساء، عرجاء.. لابد ان تتزوجها حتى ارضى عنك، والا لا ارضى.
الراوي: واحس الشاب بورطة قد وقع فيها، وكان لابد له من الموافقة.
فخطب البنت وهو لا يستطيع ان يرفع طرفه نحوها، اذ اخذ الحياء منه مأخذه، فلم يتعرف على وجهها هل هي عمياء؟ ولم يكلمها لانه اخبر انها صماء خرساء ثم لم تسنح له الفرصة ليرى قوامها فيعرف كيف هي عرجاء.
ولكنه بعد ان عقد عليها عقداً شرعياً، نظر اليها فاذا هي ذات قوام ممشوق، ليس فيها أي عيب مما ذكر والدها المزارع، فخرج من غرفته مسرعاً خشية ان يكون قد حصل اشتباه في الفتاة واذا بالرجل المزارع "يبتسم".
الرجل: بابتسامة خيراً يا ولدي.. الى اين؟
الشاب وهو مضطرب: ان البنت التي وصفتها لي يا عم ليست هذه العروس هل حصل شيء؟
الرجل يضحك: لا يا ولدي، لم يكن الاخيراً انها هي هي يا ولدي، فقد وجدتك شاباً ورعاً، الححت علي بالرضى عنك لاكلك بعض تفاحة لقيتها كانت قد سقطت من يدي وساقها الماء اليك في جدول المزرعة، فعلمت انك الشاب الذي كنت انتظره لابنتي الصالحة الورعة.
الرجل: ولكن كنت اخبرتني انها عمياء خرساء صماء، عرجاء، وهذه ليست كما وصفت لي.
الرجل: اجل هي كذلك وانت لا تعلم.
الرجل: كيف ذلك يا عم؟
الرجل: انها لم تنظر الى ما عند الناس بعين الفضول، ولم تتجسس بعينيها، فهي من الحياء، كأنها عمياء، وهي لا تختلط بالرجال ولم تكلم اجنبياً منهم، فكأنها خرساء، ولم تكن تعير اذنيها الى غيبة او غناء او كلام محرم وكأنها صماء.
الرجل: اما كيف هي ـ كما وصفت ـ عرجاء.
الرجل: لم اجدها تسرح في الطرقات، او تكثر من الخروج من منزلنا، وكأنها عرجاء، اليست هذه الفتاة المؤمنة لا يستحقها الا شاب ورع مثلك يا ولدي بارك الله لك فيها وبارك الله لها فيك.. اتمنى لكما حياة طيبة سعيدة.
والحمد لله رب العالمين.