الحمد لله حقه، كما يستحقه وافضل صلاته وازكاها على رسوله الاكرم، وآله قادة الامم.
اخوتنا الافاضل .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم في لقاء جديد، وحديث جديد، وقع فيه اختيارنا على موضوع "الغضب"، ذلك الامر الخطير الذي تعاني منه البشرية، وتحصد منه النكبات والويلات على مدى حياة الانسانية، فالنفس ـ ايها الاخوة الاعزة - تعيش حالات من الانفعال، تحكمها ضوابط من العقل والضمير والتقوى، وقد تخفق تلك الضوابط عند الانسان فينفجر غضباً في كلام بعيد عن الحكمة والاخلاق او في سلوك غريب عن الشخصية الانسانية، فضلاً عن الدينية الروحية.
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: "الا ان الغضب جمرة في قلب ابن آدم.." ويقول امير المؤمنين عليه السلام: الحدة ضرب من الجنون، لان صاحبها يندم، فان لم يندم، فجنونه مستحكم.
وفي ذلك - ايها الاخوة الاكارم - آثار خطيرة منها: الاخلال بالشخصية والاضرار بكرامتها التي وهبها الله تعالى للعبد، كي يعيش خليفته في الارض، يعمل بطاعته، ويتعامل بشريعته، والغضب مدعاة التهور والتجاوز، وقد جاء في كتاب الله العزيز: "ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون" (سورة النحل:۹۰).
ولا شك ان الغاضب لا يستطيع تحكيم العدل، ولا يتمكن من الاحسان، وايتاء ذي القربى، وهو يحمل قلباً يغلي بالحقد، ونفساً تفور بالانتقام، بل لا يستطيع امساك نوازعه عن ارتكاب المنكر والبغي والظلم، وهو يتأجج بلهيب الشيطان، وقد نبه الى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ان هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقد في قلب ابن آدم، وان احدكم اذا غضب احمرت عيناه، وانتفخت اوداجه، ودخل الشيطان فيه.
ثم من آثار الغضب الخطيرة ـ ايها الاخوة الاحبة ـ ان ينساق المرء الى امور تجره فيما بعد الى سوء العواقب، فيقول ما يتهم به الاعراض، ويتلفظ بعبارات هي في محضر الله تعالى بمقام الاعتراض، وقد يضرب احد الناس في حالة غاضبة فيؤدي بحياته.. وحقاً ما قاله الامام محمد الباقر سلام الله عليه: "ان الرجل ليغضب حتى ما يرضى ابداً.. حتى يدخل بذلك النار".
اذن.. فمن تحكم فيه الغضب وتمكن من قلبه ونفسه، كان اقرب ما يكون من المعصية، وكان اقرب ما يكون من غضب الله تعالى وعقابه.. وكيف لا والغضب يهد قوى العقل والنفس معاً، ويجعل المرء مساقاً من قبل الشيطان الرجيم، وقد جانب الحكمة، وفارق الرحمة، ونسي الادب، وغفل عن الحق، واخفى الضمير، يحذر الامام الباقر عليه السلام من نتائج الغضب فيقول: أي شيء اشد من الغضب؟ ان الرجل ليغضب.. فيقتل النفس التي حرم الله، ويقذف المحصنة.
وهنا يستدعينا الحق ان نفكر بجد ـ ايها الاخوة ـ في علاج هذا الداء الخطير وهو "الغضب"، وهو على طورين: علاج علمي، واخر عملي، فالعلمي ان يتفكر المرء في فضيلة كظم الغيظ من جهة، ورذيلة الغضب ونتائجه الوخيمة من جهة اخرى.. فهناك العفو والحلم والكرامة والمحبة، وهنا في الغضب الحقد والكراهية والانتقام والاثم، والكل عائد الى الله جل وعلا، اذ اليه الرجعى والمنتهى، والكل هناك خائف من غضب الله وعذابه فكيف النجاة.
سئل عيسى المسيح عليه السلام: أي الاشياء اشد؟ قال: اشد الاشياء غضب الله عز وجل. قالوا: فبم يتقى غضب الله فقال: بان لا تغضبوا.
وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله: احب ان اكون آمناً من غضب الله وسخطه، قال: لا تغضب على احد، تأمن غضب الله وسخطه.
واما العلاج العملي للغضب.. فالصبر، واجتناب الهوى، وتحكيم العقل، وذكر الله تعالى، قلباً ولساناً، ذكراً وعملاً، تذكروا يمنع من الغضب.
ومن العلاج ايضاً: الحلم والعفو..ما اجمل ما يقول الشاعر حين يقول:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب
وان كثرت منه عليَّ الجرائم
وما الناس الا واحد من ثلاثة
شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوق فأعرف فضله
واتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني، فان قال صنت عن
اجابته عرضي، وان لام لائم
وأما الذي مثلي فان زل او هفا
تفضلت ان الفضل بالخير حاكم
ولابد من ترويض النفس، والابتعاد عن اسباب الغضب ومهيجاته، فاذا دب الينا: استعذنا بالله تعالى، وكان منا الدعاء، والوضوء بالماء البارد، والسجود لله تعالى ولزوم الارض، والسكوت وقتاً طويلاً، وتغيير الحال، ومس المغضوب عليه اذا كان رحماً ويمقت الغضب.. الا ما كان لله تعالى، فهو قوة وليس انهياراً، قال الامام علي عليه السلام من احد سنان الغضب لله، قوي على قتل اشداء الباطل.
الراوي: كان هنالك عابد يعبد الله دهراً طويلاً فجاءه قوم وقالوا له: ان ها هنا قوماً يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب العابد لذلك، فأخذ فاسه على عاتقه وقصد الشجرة ليقطعها، فاستقبله ابليس في صورة شيخ:
ابليس: اين تريد رحمك الله؟
العابد: اريد ان اقطع هذه الشجرة.
ابليس: وما انت وذاك؟ تركت عبادتك وتفرغت لغير ذلك؟
العابد: ان هذا من عبادتي
فاعترضه ابليس ومنعه، فاصطرعا، فغلب العابد ابليس وصرعه وقعد على صدره فعجز ابليس عنه فقال له:
ابليس: اطلقني حتى اقول لك ما هو خير لك وانفع.
ابليس: انت رجل فقير وتحب ان تتفضل على اخوانك وتعين الفقراء والمساكين، فارجع عن امر الشجرة وساجعل لك عند رأسك كل ليلة دينارين، ان اصبحت اخذتهما فانفقتهما على نفسك وعيالك وتصدقت بالباقي، فيكون ذلك انفع لك وللمؤمنين من قطع هذه الشجرة.
الراوي: ففكر العابد بما وسوس له ابليس بان الامر لايعنيه فهو ليس نبياً كي يقطع شجرة تعبد، وامل ان يفي ذلك الشيخ، ـ وهو ابليس ـ ان يفي بما وعده.. فعاد الى بيته، ومحراب عبادته، وكلما اصبح وجد تحت وسادته دينارين، فيأخذهما ويتصرف بهما، وقد اصبح في اليوم الثالث فلم يجد شيئاً فغضب، ولكن هذه المرة غضب للدينارين، لا لله سبحانه، فأخذ فأسه على عاتقه، ليقطع تلك الشجرة، فاستقبله ابليس بصورة ذلك الشيخ قائلاً له:
ابليس: الى اين ايها العابد؟
العابد: لقد قررت ان اقطع الشجرة هذه المرة.
ابليس: كذبت، والله ما انت بقادر على ذلك، ولا سبيل لك اليها.
العابد: يا هذا غلبتني فخل عني.. واخبرني كيف غلبتك اولاً، وغلبتني الآن؟
ابليس وهو يضحك ويقول ساخراً: لانك غضبت لله اول مرة، وكانت نيتك الاخرة، فسخرني الله لك فغلبتني وصرعتني، وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا، فصرعتك..هيه هيه يضحك.