تأتي أهمية هذه المدينة المسجلة في قائمة التراث العالمي لليونسكو من أن تاريخ بناءها يعود الى اكثر من خمسة آلاف سنة مضت أي عندما ظهرت أولى بوادر حضارة وثقافة بشرية قدمت هذه المنطقة التي عرفت فيما بعد بأرض ايران.
قامت هذه المدينة قبل 3200 عام قبل الميلاد، وكانت مؤهلة بالسكان طوال أربع مراحل وحقب تاريخية تخلخلت ما بين 3200 الى 1800 سنة قبل الميلاد.
الفناء الأثري للمدينة المحروقة تم بناؤه في الألفيتين الثانية والثالثة قبل الميلاد، على أيدي من هاجروا الى هذه المدينة من مختلف الجهات الاربع للمعمورة.
لم يعثر بعد الباحثون وعلماء الآثار على كتيبة أثرية أو وثيقة تاريخية تتحدث عن الاسم القديم والحقيقي لهذه المدينة التي اشتهرت جراء حريق وقع فيها خلال فترتين تاريخيتين اي بين سنوات 3200 الى 2750 قبل الميلاد، اشتهرت «بالمدينة المحروقة».
المدينة المحروقة هي من اكثر المدن الأثرية ندرة من حيث أن النساء كانت لهن إدارة الشؤون المالية للأسرة. وتدل الاكتشافات الأثرية على ان المدينة تتسع الى 151 هكتاراً. يشير ما تبقى من المعالم الأثرية في المدينة المحروقة الى أنها كانت تتضمن خمسة أحياء سكنية واقعة في الشمال الشرقي للمدينة، فضلاً عن أحياء تتوسط المدينة، ومنطقة صناعية وأبنية تذكارية ومقبرة، كلها يقع على شكل هضاب وتلال متتالية مترابطة. الاحياء السكنية كانت تشمل ثمانين هكتاراً من المدينة المحروقة. هذه المدينة كانت مركزاً لنشاطات صناعية وفنية متعددة.
أجريت في المدينة المحروقة حفريات وتنقيبات أثرية مختلفة. في المرحلة السادسة من هذه الحفريات، عثر علماء الآثار على نماذج رائعة من الحلى وآلات الزينة.
كما أثبت أعمال الحفر في مراحلها السابقة أن المدينة المحروقة كانت مدينة صناعية تضمّ ورشات عمل ومعامل عدة لصنع الفخاريات والمجوهرات، ناهيك عن أن سكان المدينة كانوا يستفيدون من الأشجار والنباتات المتوفرة في الطبيعة المحيطة بهم كوقود. المكتشفات الأثرية في المدينة المحروقة تنطوي على الفخاريات بمختلف أنواعها وأوان حجرية وحياكة الأقمشة وفن المعرقات مما يدل على وجود صناعات منوعة فيها خاصة النسيج وانتاج الأقمشة التي كانت شهدت تطورا ملحوظاً آنذاك.
اكتشف لحد الآن في المدينة المحروقة على 12 نوعاً من الأقمشة المحاكة ذات لون واحد أو متعددة الألوان وصنارة صيد الأسماك، مما يشير الى ان اهالي المدينة كانوا يستفيدون من أقصاب المستنقعات المحيطة ببحيرة هامون لصنع السلات والحصائر، اضافة الى بناء سقوف البيوت. سكان المدينة المحروقة كانوا يحترفون أيضاً صيد الأسماك وحياكة شباك صيد الأسماك. ولا ريب في أنّ المدينة المحروقة كانت تعدّ من المدن المتطورة جداً آنذاك.
*العين الاصطناعية
لأول مرة، تم العثور في المدينة المحروقة على عين اصطناعية تعود الى 4800 سنة خلت. عثر علماء الآثار على هذه العين الاصطناعية التي كانت قد زرعت في جسد امرأة يبلغ عمرها ما بين خمسة وعشرين الى ثلاثين عاماً، عثروا عليها في إحدى مقابر هذه المدينة. العين الاصطناعية هذه قد زرعها أطباء العيون وقتذاك في عين المرأة اليسرى، ورغم أنه مضى نحو 4500 سنة على صناعة العين هذه، إلا أنها مازالت سالمة وعلى شكلها الأول. المواد المستخدمة في هذه العين الاصطناعية لم تحدّد بعد، ولكنه يبدو أن من صنع هذه العين استخدم الزفت الطبيعي الممزوج بنوع من الدهن الحيواني. يذكر أنه تم طلاء الجزء العلوي للعين الاصطناعية هذه بأسلاك ذهبية على شكل الشعيرات الدموية في داخل العين، يصل قطرها الى أقلّ من نصف ميليتر؛ كما تم تصميم «انسان العين» أو «بؤبؤ» في وسط العين الاصطناعية، تحيطه خطوط موازية عدّة.
*جراحة الدماغ قبل 5000 سنة مضت
أحد المكتشفات الرائعة للمدينة المحروقة يؤشر على بوادر علمية- طبية تتحدث عن أقدم جراحة أجريت على الدماغ هناك، يعود تاريخها الى قبل 5000 عام. هذه العملية الجراحية أجريت على جمجمة فتاة تبلغ من العمر اثنتي عشرة او ثلاث عشرة سنة. هذه الفتاة كانت تعاني من مرض «هيدروسفالي» أي تجمع السائل في الجمجمة، ما جعل الأطباء يجرون عملية جراحية على جمجمة الفتاة المريضة ويسحبون جزءاً من عظم الجمجمة.
*مسطرة عمرها 5000 عام
عثر علماء الآثار خلال الحفريات التي أجروها في المدينة المحروقة، على مسطرة خشبية مصنوعة من شجرة آبنوس. هذه المسطرة طولها 10 سنتيمرات ودقتها نصف ميليمتر.
المسطرة المكتشفة هذه تؤمى الى أن أهالي المدينة المحروقة كانت لديهم انجازات وتطوّر ملحوظ في علم الرياضيات.
*أقدم طاولة نرد في العالم
كما عثر في مقبرة المدينة المحروقة الأثرية على أقدم طاولة نرد في العالم اضافة الى 60 فرزة منها. طاولة النرد هذه هي أقدم من تلك التي اكتشفت في مقبرة مدينة «أور» الملكية في بين النهرين.
*أول صورة متحركة (الأنيميشن) في العالم
عثر علماء الآثار أثناء تنقيباتهم في مقبرة تعود الى قبل خمسة آلاف سنة، عثروا على كأس نقشت عليها صورة عن ماعز وشجرة. وبعد اجراء أبحاث متعددة على الكأس هذه، توصل علماء الآثار الى نتيجة مهمة وهي أن الصورة المنقوشة على هذه الكأس وخلافاً لباقي المكتشفات في محيط المدينة المحروقة، تتبع تكراراً هادفاً يؤمى الى توجه الماعز نحو الشجرة.
وفي الحقيقة ان الفنان والرسام الذي جعل من هذه الكأس الفخارية لوحة للرسم، صمم بريشته وانطلاقاً من مهارته ونبوغه، ماعزاً يتحرك باتجاه الشجرة وليتغذى من أوراقها، وذلك من خلال رسم خمس حركات مكررة هادفة؛ الأمر الذي جعل علماء الآثار يقرّبون هذه الصور الى بعضها البعض ونجحوا أخيراً في إنتاج صورة متحركة (الأنيميشن) تبلغ مدتها عشرين ثانية.