إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
كلّ المراحب بكم في لقاء أخري يشرّفنا أن يجمعنا بكم عبر جولة أخري بين قضايا الشباب من خلال برنامجكم نبض الحياة آملين أن تمضوا معنا أوقاتاً ملؤها الفائدة والمتعة في هذه الحلقة التي سنخصّصها لبحث موضوع القدوة وميل الشباب إلي الاقتداء بشخصيّة معيّنة يتخذونها لهم المثل الأعلي في حياتهم ، ندعوكم للمتابعــــة ...
أحبّتنا المستمعين !
لاشكّ في أن عهد الشباب يعدّ مرحلة بالغة الحساسيّة و مليئة بالاضطراب في نفس الوقت ؛ لأن شخصيّة الإنسان تتكوّن في هذه المرحلة و تظهر عليها صفات متضادّة ؛ فمن جهة ، تزدهر براعم الحب والأمل و من جهة أخري فإن اللهيب المتّقد للشهوات والأفكار المختلفة يحيط بالشاب من كل جهة . وطاقة الشاب عجيبة للغاية وهي بحاجة إلي موجِّه ومراقب من أجل الحيلولة دون الطغيان والجموح ، وهي كالسيول الجارفة و المتفرّقة التي إن تمّت السيطرة عليها عبر السدود الكبيرة وجرت في اتجاه معيّن و مدروس ، فإنها ستضيء بلداً بأكمله و تشيع الخصب والرخاء في مناطق واسعة. وهكذا الحال بالنسبة إلي الطاقة الشبابية فإن من شأنها أن تشيع النور والخصب والعطاء في مجتمعات بأكملها .
وسوف يدور حديثنا في هذه الحلقة حول القدوة لدي الشباب علماً أن الاقتداء هو عملية اتباع أنموذج معيّن و ودليل للعمل في السلوك . ورغم أن الاقتداء قائم في كل مراحل حياة الإنسان ولكن هذا السلوك له دور أكبر في مرحلتي الطفولة والشباب . والاختلاف الوحيد هو أن اتباع شخصية ما في عهد الطفولة هو - في الغالب - لايصدر عن وعي بل يتم عبر التقليد ولكنه في عهد الشباب يكون عن وعي إلي حدّ ما ومتأثّراً بالأحاسيس والعواطف وقائماً علي مجموعة من الرؤي المستندة إلي القيم وإن كانت سطحيّة .
وفي عهد الشباب الذي يمثّل أهم مراحل تكوين شخصيّة الأفراد ، يتمتّع نموّ الكمال الإنساني بسرعة أكبر . لأن الفرد يكون في هذه الفترة علي أعتاب الانخراط في المجتمع ويسعي دوماً لأن يؤسس شخصيته بشكل من الأشكال بحيث يحظي باهتمام أكبر وأسرع من قبل أبناء جلدته بل و سائر شرائح المجتمع و يتزيّن أكثر من الآخرين بالفضائل والصفات التي يهتم بها سائر الأفراد . والشاب يبحث عادة عن أساليب وأدوات مؤثّرة من أجل تحقيق هذا الهدف ، ومن أهم الأمور للشاب في هذا المجال ، وجودُ القدوة والنموذج الذي اجتاز مراحل من الكمال بنجاح و أصبح يتمتّع بالمزيد من القبول لدي الناس .
مستمعينا الأكارم !
إن إرشاد الشريحة الشابة و توجيهها هما من أهم آثار القدوة . فهناك الكثير من الأمور الواجبة والأعمال الضروريّة والمصيرية لا يمكن للشباب إدراكها بسهولة بسبب عدم تمتّعهم بالتجربة الكافية والعلم الواسع ولكن وبمجرد أن يتعرّف الشاب علي القدوة المناسبة عن طريق مجموعة سلوكيّاته فإنه سيحدّد بسهولة أيّ الأعمال عليه إنجازها وفي ظل أية ظروف وباستخدام أي أسلوب . وفي الحقيقة فإنّ دور القدوة في إرشاد الإنسان هو بمثابة النموذج في التعليم و البوصلة في تعيين الطريق ، فالقدوة يعلّم الإنسان ما يجهله و يرشده إلي ما عليه فعله .
وأفكار الشباب لا تنتظم ولا تتجانس إلا من خلال القدوة التي تمكّنه من تنظيم مواهبه وقدراته الذهنية في إطار الأهداف والكمال الذي يبحث عنه و تحول دون هدر تلك المواهب والطاقات . ويتعلّم الشاب من خلال مشاهدة همّة الشخصيّة القدوة وسعيها وجهودها البنّاءة أن باستطاعته هو أيضاً أن يتجنّب الأعمال العبثيّة وغير الهادفة وأن يبلغ حياة قيّمة وسامية عبر السعي والمثابرة الأكبر بدلاً من الانغماس في الحياة اليوميّة ، وأن يكون شخصاً مفيداً ومؤثراً في مجتمعه فضلاً عن النجاح في الحياة الفرديّة .
والشاب يتشبّه في الأساس في الحياة الاجتماعية والتعامل مع الآخرين بالأشخاص الذين يبدون له جذّابين و يحملون الأفكار التي يميل إليها . وهذه الخصوصيّة مصدرها أمر فطري كامن في ذات الإنسان ويزدهر في عهد الشباب ؛ ذلك لأن التكوين الوجودي للإنسان هو بشكل بحيث يخضع دوماً للعوامل الخارجية . وهذا التأثر أمر ذاتي وفطري يعود إلي أصل فطرة الإنسان وأساس وجوده و ما مِن إنسان إلّا ويتمتّع به . ولذلك ، فإننا لا يمكن أن نجد إنساناً ممتنعاً علي النفوذ بشكل كامل ولا يؤثّر فيه شيء ؛ لأن الإنسان مرتبط في كل الظروف بمجموعة من العوامل الخارجيّة التي تترك تأثيرها - شاء أم أبي - علي جسمه وروحه . ويبدأ اقتداء الإنسان من محيط الأسرة . ثم يستمر في المدرسة والمجتمع ويبلغ ذروته في مرحلة الشباب . وبناء علي ذلك ، فإن الشاب يبحث عن القدوة من الناحية الفطرية وتعتبر هذه الخصوصيّة جزءاً من ذاته ولذلك فإنه في حالة بحث دائم عن أبطاله الذهنيين .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
ولكن القضيّة المهمة في هذا المجال هي الاختيار الواعي للقدوة ؛ بمعني أنّ علي الشاب أن يختار قدوة في حياته يكون اتباعها مدعاة لرفعته في الدنيا والآخرة ، لا أن تتسبّب في تعاسته . وقد التفت الإسلام إلي هذا المطلب الفطري للشباب و قدّم لهم النماذج والقدوات الصالحة كي يتشبّهوا بهم في فكرهم وسلوكهم . وقد ذكر القرآن الكريم هذا النوع من القدوة بتعبير الأسوة الحسنة أي القدوة الصالحة والمناسبة في كل شؤون الحياة سواء الفردية أم الاجتماعية .
ويصف الله تعالي شخصيّة النبي الأعظم (ص) بأنها أسوة حسنة حيث يقول الآية ۲۱ من سورة الأحزاب :
" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً .
والاقتداء بسيرة النبي (ص) وسلوكه يقرّب الشباب من الله و يبعدهم عن أي نوع من الانحراف الفكري والأخلاقي . وقد تحدّث الإمام علي (ع) حول الاقتداء بالنبي (ص) في نهج البلاغة ودعا الشباب إلي الاقتداء به قائلاً :
"وَ اقتَدوُا بِهُدَي نَبِيِّكُم! فَاِنَّهُ اَفضَلُ الهُدَي وَ استَنّوُا بِسُنَّتِهِ فَاِنَّهَا اَهدَي السُّنَنِ .
ويقول عليه السلام في موضع آخر :
" وَلَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله كَافٍ لَكَ فِي الاْسْوَةِ وَدَلِيلٌ لَكَ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا .
لقد كانت شخصيّة رسول الله (ص) قدوة حيّة دوماً وخالدة للبشر طيلة التاريخ . وهي ماتزال حيّة حتي اليوم باعتبارها أسوة حسنة و أنموذجاً خالداً تجاوز الأطر الزمانيّة والمكانيّة . فشخصيته لم ولن تقتصر علي زمن خاص ، بل هي حقيقة حيّة دائماً وخالدة تتبلور لكل جيل وتنسجم مع حقائق حياتهم .
وسيرة النبي الأعظم (ص) تفتح الطريق أمام الباحثين عن الحق والحقيقة في كل شؤون الحياة الفردية والاجتماعيّة . ووجوده (ص) يشبه المحيط اللامتناهي المفعم بالفضائل الإنسانيّة و علي كل شخص أن يتزوّد من الينبوع الدفّاق للكمالات الإلهية كلّ حسب استعداده وقدرته .
إن تقديم القدوة له أهمية من نوع خاص في تعليم الجيل الشاب وتربيته وهو ممّا يؤكّد عليه خبراء شؤون التعليم والتربية . ولذلك فإن علي المعلّمين والمربّين أن يتعرّفوا علي القدوات المناسبة علي أساس التعاليم الدينية والإسلامية و يقدّموها إلي اليافعين والشباب ؛ وهي قدوات معروفة وردت الإشارة إليها في القرآن والأحاديث الإسلاميّة . وبالنظر إلي الهجوم المتزايد للثقافة الغربية وتقديم النماذج غير الأخلاقية المختلفة ، فإن من الواجب أن يتم التعريف الجيل الشاب بأفضل النماذج في الحياة من وجهة نظر القرآن والإسلام كي يكون بمقدورهم أن يختاروا مساراً صحيحاً في حياتهم في نفس الوقت الذي يشبعون فيه غريزتهم الباحثة عن القدوة .
مستمعينا الأطايب !
علي أمل أن نجدّد اللقاء بكم في حلقة أخري من برنامجكم نبض الحياة نناقش فيها قضيّة أخري من قضايا الشباب ، نستودعكم العلي القدير ، شاكرين لكم طيب متابعتكم لنا .