أحبّتنا المستمعين !
تقبّلوا خالص تحايانا وأحلي أمانينا ونحن نجدّد اللقاء بكم من خلال محطّة أخري من برنامجكم الشبابي نبض الحياة ، حيث سنخصّص الحديث اعتباراً من هذه الحلقة حول ظاهرة أوقات الفراغ والأسلوب الأمثل لاستغلالها من وجهة نظر الإسلام والأحاديث وآراء علماء الاجتماع في هذا الصدد ، تابعونـــا ...
مستمعينا الأفاضل !
يقول نبيّ الإسلام (ص) في وصيته لأبي ذر الغفاري ( رض ) :
"كُن علي عمرك اَشَحَّ منك علي دينارك و درهمك »
نحن نعلم أن مرحلة الشباب من عمر الإنسان لها أجواء وميزات خاصة لا نجدها في المراحل الأخري . وعلي حدّ تعبير سماحة قائد الثورة الإسلاميّة فإنّ : الشباب نعمة كبيرة تمنح للإنسان مرّة واحدة في حياته ؛ ولها فترة معيّنة . وحينما نجتاز هذه المرحلة فإن بإمكاننا الاستفادة من بركاتها في المراحل اللاحقة . و الرجال المسنّون الذين يتمتّعون بالاطمئنان الروحي و الفكر النيّر والسلوك المنظّم والمخطّط له ، هم الذين اجتازوا عهد الشباب بهذه الخصوصيّات . وأما الرجال المسنّون الخاملون والمضطربون و العديمو الصبر و الضجرون من الحياة ، فهم الأشخاص الذين لم يُعِدّوا هذه الذخيرة في عهد الشباب .
وبالنظر إلي القوي والمواهب الكامنة في ذات الإنسان و الحاجات والأمنيات التي يحفل بها عهد الشباب ، فإن من الواجب أن يعلم الشاب كيف ينفق عمره وفي أية أمور، كي ينمّي جوانب وجوده وأبعاده بشكل متناسق و متوازن ؛ لأن الإفراط أو التفريط في أي من أبعاد الوجود ، يمنعان الإنسان من سلوك طريق السعادة والفضيلة .
مستمعينا الأحبّة !
قد اعتبر الخبراء في الإدارة والعاملون في المجالات التربوية ، أوقات الفراغ ظاهرة تعدّ ، من جهةٍ ، الأنسبَ لنموّ واردهار المواهب والاستعدادات المختلفة ، والممهِّدة من جهة أخري للكثير من الانحرافات والمخالفات .
وما يؤدّي إلي هذا الدور المزدوج و الذي خلق فيما يبدو بعضَ التعارضات ، هو كيفيّة قضاء هذه الأوقات واستغلالها . وللأسف فإن أزمة الهويّة في المجتمعات الراهنة ، أدّت إلي أن يبتلي الشباب بالضياع والغربة عن الذات فاتجهوا في الغالب إلي الفساد والإدمان والانحراف وأنواع الجريمة من أجل قضاء أوقات فراغهم . و مواضيع من مثل نوع الأعمال والنشاطات التي ينبغي علي الشباب أن يمارسوها ، وإلي أي مدي يجب أن تكون هذه النشاطات حرّة وتحت إشراف الآخرين ، و كيف يجب أن تكون وفي أي بيئة ؟ ... كل ذلك يعتبر جزءاً من كيفية استغلال أوقات الفراغ .
ويمكن أن أن تشكّل أوقات الفراغ اللحظات الجميلة والذهبيّة من حياة أي شاب حيث إن من شأنها أن تؤدّي إلي رضاه الذاتي و شيوع البهجة في حياته .
و نشاطات أوقات الفراغ هي مجموعة الأنشطة التي يمارسها الإنسان برغبة واشتياق بعد تحرّره من واجبات العمل والأسرة والمجتمع ومسؤوليّاته ، وهدفه من ذلك الاستراحة و الترفيه و توسيع علمه ومعرفته و إكمال شخصيّته و التعبير عن قدراته علي الخلق و الإبداع ، وأخيراً مشاركته الحرّة في المجتمع .
ويذكر عالم الاجتماع الفرنسي جوفريه دي مازيه (Joffre Dumazedier) ثلاث وظائف رئيسة لوقت الفراغ : الأولي أن الفراغ يتيح للفرد أن يزيح عن كاهله عبء العمل وضغوط المسؤوليّات . والأخري أن الترفيه عن النفس و ممارسة الهوايات يفتحان أمام الإنسان آفاقاً جديدة يمكن له من خلالها الهروب من التعب اليومي لبعض الواجبات المحدودة والعادية وكذلك الأعمال الرتيبة والمحيط المثير للملل كي لا يبتلي يالركود أو الانهزام النفسي .
والثالثة ، أن الفراغ يهيّء الأرضيّة لنمو الشخصية ويجعل الفرد قادراً علي أن يتحرّر من قيود الأعمال اليوميّة الرتيبة ، وأن يعمد إلي الاكتشاف والاختراع والابتكار و يغيّر محيطه والأشخاص المرتبط بهم .
أعزّننا المستمعين !
وفي الحقيقة فإنّ " الفراغ " في أكثر مفاهيم هذه الكلمة واقعيّةً ، يؤدّي الأدوار الثلاثة السابقة كلّها و يشبع حاجة الإنسان المرتبطة بكلّ منها . وعلي هذا الأساس ، فإن أوقات الفراغ من وجهة نظر معظم علماء الاجتماع ، ليست مجرّد وقت لا ينشغل فيه الإنسان بالعمل ، بل هي وقت يكون فيه متحرّراً من الواجبات العمليّة و نشاط يختاره الفرد بحريّة ويؤدّي إلي نموّ مواهبه و اطمئنانه ورضاه .
ولاتنسجم أوقات الفراغ في الثقافة الإسلاميّة مع العبث والبطالة أو الانحراف والحياة اليوميّة الرتيبة ، بل إن الفراغ هو فرصة أخري للسعي والنشاطات الفكرية و ازدهار المعرفة والرؤية ، ورغم أن النشاطات الظاهريّة والحركيّة تتعطّل فيها ، إلّا أن السعي الذاتي و السفر إلي ديار القرب الإلهي ، يبدءان بطهارة النيّة و إشراقة الفكر . كما أن معطيات هذا السفر ستضيء ليالي الحياة وأيّامها لأسابيع وشهور وربّما لسنين . ولذلك يرفع الإمام السجّاد عليه السلام يديه بالدعاء من الخالق تعالي قائلاً :
" فَإنْ قَدَّرْتَ لَنَا فَرَاغاً مِنْ شُغُل فَاجْعَلْهُ فَرَاغَ سَلاَمَة لاتُدْرِكُنَا فِيهِ تَبِعَةٌ وَلاَ تَلْحَقُنَا فِيهِ سَاَمَةٌ حَتَّى يَنْصَرِفَ عَنَّا كُتَّابُ السَّيِّئَاتِ بِصَحِيفَة خَالِيَة مِنْ ذِكْرِ سَيِّئاتِنَا وَيَتَوَلّى كُتَّابُ الْحَسَنَاتِ عَنَّا مَسْرُورِينَ بِمَا كَتَبُوا مِنْ حَسَنَاتِنَا.
والشاب بحاجة بعد القيام بالعمل طيلة مدّة معيّنة ، إلي أن يخصّص بعض الأوقات للترفيه عن نفسه . وتعدّ بعض الهوايات من مثل تسلّق الجبال و السباحة و ركوب الخيل وأمثالها من ضمن الممارسات التي أكّد الإسلام عليها ، ومثل أساليب الترفيه هذه تؤدّي دوراً مؤثراً في تجديد حيويّة الشاب و تسهم في رفع مستوي إنتاجه .
وعلي العكس من ذلك ، فإن عدم الاستغلال الصحيح لأوقات الفراغ يؤدّي إلي استمرار حالات عدم النضج في مرحلة الشباب وأن لا يجد الشاب فرصة الاختبار والتجربة فيكون بالتالي غير كفوء وتعوزه الكثير من المهارات عند انخراطه في الحياة الاجتماعيّة . ونتيجةُ هذا النمط من الحياة هي ضعف مسار إدارة المجتمع والتخطيط له ولذلك فإن عدم الاهتمام واللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤوليّة فيما يتعلّق بحاجات الشباب في أوقات الفراغ كلّ ذلك سيؤدّي إلي أن يتصوّر الشباب أن الآخرين لا يفهمونهم وأن المجتمع غريب عنهم .
وإلي ذلك فإنّ علماء الاجتماع يرون أن تخصيص بعض الساعات من اليوم وإن كانت قليلة ، يؤدّي إلي اكتساب الطاقة والقوّة اللازمة للقيام بالأعمال العلمية والعملية . والمراد من الترفيه لا يقتصر علي التجوّل و المشي في الحدائق والسفر ، رغم أن هذه الأعمال إن أدِّيت بشكل بريء وهادف ، فإنها ستؤدّي إلي تعزيز معنويات الشاب و خلق النشاط والحيوية فيه ، فضلاً عن أنه يكون بذلك قد ملأ بعض الساعات من وقته .
إن تشجيع الجيل الشاب علي السير وفق برنامج مفيد وشامل للرياضة والأنشطة الحركيّة ، و المطالعة علي أساس مسار بحثي منظّم ، و تربية الذوق والفن ، و تعلّم مهارات الحياة الاجتماعيّة وتعزيز الأسس الدينية والأخلاقيّة ، كلّ ذلك سيعين الشباب علي تحقيق حياة متوازنة ومزدهرة .
إخوتنا ، أخواتنا المستمعين والمستمعات !
حديثنا حول الأسلوب الأمثل لاستغلال أوقات الفراغ من قبل الشباب ، ستكون له تتمّة بإذن الله ، في لقائنا المقبل معكم بإذن الله عبر برنامجكم نبض الحياة ، حتّي ذلك الحين ، كونوا في انتظارنا .