بسم الله وله الحمد والمجد ذي الأناة الذي لا يعجل رب العالمين والصلاة والسلام على رحمته الكبرى للعالمين محمد وآله الطاهرين. السلام عليكم إخوة الإيمان ورحمة الله، الله تبارك وتعالى هو ذو الأناة الذي لا يعجل، وهذه الصفة من صفاته العليا عزوجل تعبر في الواقع عن أحد أخلاقه الأساسية في التعامل مع خلقه وتدبير شؤونهم. إن الله عزوجل قد وعد عباده بأن يظهر دينه على الدين كله ويورث الأرض لعباده الصالحين، لكنه جل جلاله لا يعجل في تحقيق هذا الوعد قبل أوانه بل إقتضت حكمته أن يعطي الفرصة لجميع المدارس والتيارات الفكرية لكي تقيم دولها التي تبشر بها البشرية، وجعل دولته العادلة آخر الدول لكي يذعن الجميع لحقيقة عدم إمكانية تحقق العدل والصلاح بالصورة الشاملة إلا فيها.
مستمعينا الأفاضل، وهذا الخلق ظهر في أوليائه المقربين محمد وآله المعصومين عليهم السلام وعلى أساسه تعاملوا مع الآخرين، وهذا ما تشير إليه الرواية التي اخترناها لهذا اللقاء من سيرة مولانا الإمام الباقر عليه السلام، تابعونا مشكورين.
عن أبي بكر الحضرمي قال: لما حمل أبوجعفر الباقر عليه السلام إلى الشام إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه قال هشام لأصحابه ومن كان بحضرته من بني أمية: إذا رأيتموني قد وبخت محمد بن علي ثم رأيتموني قد سكت فليقبل عليه كل رجل منكم فليوبخه، ثم أمر أن يؤذن له، فلما دخل عليه أبوجعفر عليه السلام قال بيده: السلام عليكم فعمهم جميعا بالسلام ثم جلس، فازداد هشام عليه حنقا بتركه السلام عليه بالخلافة وجلوسه بغير إذن، فأقبل يوبخه ويقول فيما يقول له: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شق عصا المسلمين ودعا إلى نفسه وزعم أنه الإمام سفها وقلة علم، ووبخه بما أراد أن يوبخه، فلما سكت أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يوبخه حتى انقضى آخرهم، فلما سكت القوم نهض عليه السلام قائما ثم قال: "أيها الناس أين تذهبون وأين يراد بكم، بنا هدى الله أولكم وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجل فإن لنا ملكا مؤجلا وليس بعد ملكنا ملك لأنا أهل العاقبة، يقول الله عزوجل "وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"".
نعم مستمعينا الأفاضل، على أساس تلك الرؤية الإستراتيجية حسب المصطلحات الحديثة تعامل إمامنا الباقر عليه السلام مع الطاغية الأموي وهو يخبره بأن دولة أهل البيت عليهم السلام هي آخر الدول وعلى أساس هذه الرؤية جاءت نشاطات الإمام الباقر عليه السلام الإصلاحية الذي أمر الطاغية الأموي بسجنه بعد ذلك، جاء في تتمة رواية أبي بكر الحضرمي: فأمر به إلى الحبس فلما صار في الحبس تكلم فلم يبق في الحبس رجل إلا ترشفه وحن إليه، فجاء صاحب الحبس إلى هشام فقال: يا أمير المؤمنين إني خائف عليك من أهل الشام أن يحولوا بينك وبين مجلسك هذا، ثم أخبره بخبر (يعني ما قام به الإمام الباقر عليه السلام في السجن)؛ قال الراوي : فأمر به فحمل على البريد هو وأصحابه ليردوا إلى المدينة، وأمر أن لا يخرج لهم الأسواق وحال بينهم وبين الطعام والشراب فساروا ثلاثا لا يجدون طعاما ولا شرابا حتى انتهوا إلى مدين، فأغلق باب المدينة، دونهم فشكا أصحابه عليه السلام الجوع والعطش. فصعد عليه السلام جبلا ليشرف عليهم فقال بأعلى صوته: "يا أهل المدينة الظالم أهلها أنا بقية الله"، يقول الله: "بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ". قال الراوي: وكان فيهم شيخ كبير فأتاهم فقال لهم: يا قوم هذه والله دعوة شعيب النبي والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدقوني في هذه المرة وأطيعوني، وكذبوني فيما تستأنفون فإني لكم ناصح، قال: فبادروا فأخرجوا إلى أبي جعفر عليه السلام وأصحابه بالأسواق، فبلغ هشام بن عبد الملك خبر الشيخ فبعث إليه فحمله فلم يدر ما صنع به.
أعزائنا المستمعين، لنتدبر معا في الكلمة العلوية التالية التي رواها الشيخ الجليل العلامة علي بن عيسى الأربلي في كتاب كشف الغمة عن علي عليه السلام أنه قال لقيس بن سعد وقد قدم من مصر: "يا قيس، إن للمحن غايات لابد أن ينتهى إليها، فيجب على العاقل أن ينام لها الى إدبارها فإن مكايدتها بالحيلة عند إقبالها زيادة فيها".
أعزائنا المستمعين في هذه الحكمة العلوية والوصية البالغة إشارة دقيقة إلى ما ينبغي أن يكون خلق المؤمن في التعامل مع المحن والصعوبات التي يمر بها في ظل الحكومات الجائرة. ندعوكم للتأمل فيها ونحن نودعكم في ختام حلقة اليوم من برنامج (من أخلاق الله)، من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في إيران، نستودعكم الله بكل خير والسلام عليكم.