الحمد لله كما هو اهل الحمد، وأزكى الصلاة والسلام على المصطفى محمد، وعلى آله اولي الحجى والسؤدد.
كل من ورد من اصحاب الامام الحسين (عليه السلام) الى طفّ كربلاء، كانت له قصة جاءت به، وتلك القصة نسجتها اسباب وعلل، منها الايمان والصدق والولاء وثبات النوايا وصلاحها، وتوفيق من الله تبارك وتعالى عظيم، فالالتحاق بسيد شباب اهل الجنة والانضمام الى ركبه الالهي الشريف، والفداء بين يديه سلام الله عليه، لا يتاح الا لاهل الاخلاص والصبر، وذوي الحظ العظيم.
وقد خرج ابو عبد الله الحسين (عليه السلام) من المدينة فحفّ به بنو هاشم وبعض الاصحاب، وورد مكة فانظم اليه آخرون، ثم اخذ المؤمنون من كل حدب وصوب يلتحقون، وكان من بينهم رجل من شيعة البصرة اسمه عامر بن سالم العبدي البصري، قد خرج هو ومولاه سالم مع يزيد بن ثبيت العبدي اليصري الى الامام الحسين لينظموا اليه، متشرفين بلقاءه وسعداء بقبول الحسين اياهم بعد ان انجذبت اليه قلوبهم فالتحقت به اجسامهم، ليدخلوا في ملحمة عاشوراء.
كانت دار يزيد بن ثبيت العبدي مألفاً للشيعة يتحدثون فيها، وكان عبيد الله بن زياد بعد بلوغه اقبال الحسين (عليه السلام) ومكاتبته اهل العراق له، كتب الى عامله بالبصرة ان يضع المناظر ويأخذ الطرق؛ لذا ازمع يزيد بن ثبيت على الخروج الى لقاء الامام الحسين (عليه السلام)، وكان له من البنين عشرة، فدعاهم الى الخروج معه، فانتدب له اثنان، هما: عبد الله، وعبيد الله.
ثم سأل اصحابه: اني قد ازمعت على الخروج، فمن يخرج معي؟
قالوا: انا نخاف اصحاب عبيد الله بن زياد!
فخرج يزيد بن ثبيت العبدي هو وابناه، وصحبه عامر بن مسلم ومولاه سالم، وسيف بن مالك والادهم بن امية، وجد في الطرق حتى انتى الى سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين صلوات الله عليه وهو بالابطح من مكة المكرمة، فاستراح يزيد في رحله ثم جاء الى منزل الامام الحسين فلم يجده، وقد بلغ الحسين (عليه السلام) مجئ يزيد العبدي فجعل (عليه السلام) يطلبه، حتى جاء بنفسه الشريفة الى رحل يزيد بن ثبيت، فقيل له: قد خرج الى منزلك، فجلس الحسين في رحل يزيد ينتظره حتى اقبل، فلما رأى يزيد امامه ينتظره في رحله قرأ قوله تبارك وتعالى: «بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ» (يونس، 58)، ثم قال: السلام عليك يا ابن رسول الله.
ثم جلس اليه، وحدثه بقصة مجيئه وإقدامه عليه، فدعا له الامام الحسين (عليه السلام) بخير، ثم ضم رحل يزيد بن ثبيت العبديّ الى رحله سلام الله عليه.
وهكذا يالتحق الاصحاب أرواحاً تهفو الى ريحانة المصطفى وسبطه ابي عبد الله الحسين صلوات الله عليه، فتجد أبدانها تخفُّ إليه على بعد المسافات، لتنضم الى قافلته التي ستعرج قريباً من كربلاء، الى اقاصي السماء، مع سيد الشهداء.
فلم يزل يزيد بن ثبيت العبديّ البصري هو وابناه ومن اقبل معه، ملازمين للامام الحسين لحظة بلحظة، وخطوة بخطوة من منزل الى آخر، وفي مسير واحد حتى القوا رحلهم في عرصة كربلاء، وقاتلوا دونه يوم عاشوراء، فاستشهدوا جميعاً في الطف بين يديه.
هم فتية خطبوا العلى بسيوفهم
ولها النفوس الغاليات مهور
فرحوا وقد نعيت نفوسهم لهم
فكأن لهم ناعي النفوس بشير
فاستنشقوا النقع المُثار كأنه
ندُّ المجامر منه فاح عبير
واستيقنوا بالموت نيل مُرادهم
فالكل منهم ضاحك مسرور
فكأنما بيض الحدود بواسماً
بيض الخدود لها ابتسمن ثغور
كسروا جفون سيوفهم وتقحموا
بالخيل .. حيث تراكم الجمهور
عاثوا بآل أميةٍ فكأنهم
سرب الغات يعثن فيه صقور
حتى إذا شاء المهيمن قربهم
لجواره .. وجرى القضا المسطور
ركضوا بأرجلهم الى شرك الردّى
وسعوا .. وكلّ سعيه مشكور
فزهت بهم تلك العراص كأنما
فيها ركدن أهلة وبدور
نقرأ في (مناقب آل ابي طالب ) لابن شهر آشوب، وفي (رجال الشيخ الطوسي)، و(الحدائق الوردية) للمحليّ: أن عامر بن مسلم العبديّ ومولاه سالم رضوان الله عليهما قد استشهدا في الحملة الاولى من وقائع يوم عاشوراء.
وكان سالم مولى عامر العبدي، رجلاً من البصرة، رافق مولاه عامراً حتى نال الشرف الاسمى مع صاحبه، فحظي بالشهادة بعد ان برز يقاتل حتى قُتل، فدُفن مع شهداء كربلاء.
ولقد كان سالم هذا سالماً في دينه وعقيته، وقد امتلأ شوقاً الى التضحية وهو يسمع إمامه الحسين (عليه السلام) يستنهض الضمائر، ويقول منادياً الناس يوم عاشوراء: «الا إن الدعيّ ابن الدعيّ، قد ركز بين اثنتين: بين السِّلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وانوف حميّة، ونفوس ابيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام».
ثم انشد (عليه السلام) ابيات فروة المرادي:
إذا ما الدهر جرّ على اناسٍ
بكلكله.. أناخ بآخرينا
فإن نهزم فهزّامون قدماً
وإن نُهزم فغير مُهزمينا
وما ان طبنا جُبن ولكنّ
منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
ونال سالم مع صاحبه عامر شرفاً آخر، ذلك هو زيارة الامام المهدي صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين، في الشهداء بكربلاء، حيث جاء فيها: السلام على عامر بن مسلم، السلام على سالم مولى عامر بن مسلم.