بسم الله، والحمد لله، وأفضل الصلاة وأنماها على رسول الله، وعلى آله الهداة أولياء الله.
قد يتخيّل بعض المؤرخين أنّ أصحاب الامام الحسين عليه السلام قد جمعتهم الصُّدف والاتفاقات العمياء، لكنّ التحقيق العلميّ يُجزم أنّ لله في خلقه شؤوناً وأسراراً وحكماً وتوفيقات لا اتفاقات.
فالاختيارات الالهية مقرونة بالمشيئة الحكيمة والارادة الغيبية، زعباد الله مكشوفة لدي بارئهم نواياهم وكوامنهم، فيَّسر الله لهم ذلك الفوز العظيم حين والوا سيّد شباب اهل الجنة أبا عبد الله الحسين صلوات الله عليه، وودَّوه وأحبوه، وآزروه وناصروه، وتقدموا بين يديه للشهادة والفداء دونه، لينعموا برضوان ٍ من الله أكبر من الجنان، ويُدفنوا في مزار ولي الله سيّد الشهداء أمين الرحمان، وكان من اولئك سويد بن عمرو الخثعميّ فمن يا ترى هذا الشهيد... السعيد؟!
سويد بن عمرو بن ابي المطاع الانماري الخثعميّ شيخ شريف، عابد كثير الصلاة، كان رجلا ً شجاعا ً مجربا ً في الحروب... كتب الله تعالى له توفيق الالتحاق بالركب الحسيني الشريف في كربلاء، وكان ممن ثبت مع أصحاب سيّد الشهداء الحسين سلام الله عليه... إذ تلقوا سهام الاعداء وهم صفوف بين يدي إمامهم لما رماهم عسكر ابن سعد حين رمى سهم الفتنة شرارة خبيثة لإيقاد الحرب. فنهض الاصحاب بعد أن لم يبق منهم أحد إلا أصابه شيء من سهام اللؤماء.. نهضوا رغم ما أصابهم ليحملوا حملة واحدة - على قلتهم، فاقتتلوا ساعة، فلما انجلت غبرة الحملة إلا عن خمسين شهيدا ً منهم.
وما بقي إلا الاقل القليل، يواجهون جيشاً أصطف آلافا ً مؤلفة، فبرزوا بروح التضحية، والعزة والكرامة، زفيهم ذلك الشيخ الشهم سويد بن عمرو الخثعميّ، يبرز الرجل منهم بعد الرجل.. يقاتلون فيُكثرون القتل في عسكر عمر بن سعد، حتى صاح عمرو بن الحجاج بأصحابه ضجراً.
وكان على ميمنة عسكر ابن سعد: أتدرون من تقاتلون؟! إنكم تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر، وقوما ً مستميتين! لايبرز اليهم أحد منكم إلا قتلوه على قلتهم، والله لو لم ترموهم إلا ّ بالحجارة لقتلتموهم.
ثم حمل عمرو بن الحجاج هذا بروح خبيثة ٍ على ميمنة عسكر الامام الحسين عليه السلام، فثبت الاصحاب ـ وفيهم سُويد بن عمرو الخثعميّ، حيث جثوا على ركبهم مشرعين رماحهم، فلم تقدم خيل عمرو بن الحجاج، فلما فرّت الخيل رشقهم أصحاب الحسين بالنبل، فصرعوا رجالا ً، وجرحوا آخرين.
وكانت المنازلة، رجل من الاصحاب يبرز، فيبرز له عشرات من جيش النفاق والخيانة والغدر. حتى قاتل مسلم بن عوسجة فاستشهد، وقاتل من بعده حبيب بن مظاهر الاسدي فاستشهد، وخرج من بعدهما الحرّ الرياحيّ فقاتل هو وابنه فاستشهدا، وأُثخن سعيد بن عبد الله الحنفيُّ بالجراح حتى تزاحمت السِّهام عليه وقد جعل بدنه سدّا ً أمام الحسين، فاستشهد.. وهكذا بقية الاصحاب تقدموا مستأذنين أبا عبد الله الحسين سلام الله عليه، ثم برزوا فقاتلوا فرادى جموع اعداء الله، حتى تألقت ارواحهم شهداء مبرورين. وسويد بن عمرو ثابت ينتظر أن تسنح فرصة الاستئذان، حتى حانت بعد ان كان صبره أن ينفد وهو يرى إخوانه في الله يُصرَّعون مُضرجين بدم الشهداء، بعد أن تزاحموا بين يدي سيد شباب اهل الجنة أبي عبد الله الحسين.
قوم إذا نودوا لدفع ملمّة ٍ
والخيل بين مُدعَّس ٍ ومكردس ِ
لبسوا القلوب على الدروع كأنهم
يتهافتون الى ذهاب الانفس ِ
وقُتل الاصحاب فلم يبق منهم إلا رجلان: أحدهما بشرُ بن عمرو الحضرميّ، وسويدُ بن عمرو الخثعميّ... فتقدّم سُويد!
نعم ... تقدّم سويد بن عمرو الخثعميّ إلى ساحة الطفّ بكربلاء، بعد أن استأذن إمام زمانه الحسين عليه السلام، وقد رأى صاحبه بشر بن عمرو الحضرميّ قد استشهد امامه، فخرج سويد يرتجز ويقول:
أقدِم حسين اليوم تلقى أحمدا
وشيخك الحبر عليا ً ذا الندى
وحسنا ً كالبدر وافى الاسعدا
وعمَّك القرْم الهمام الارشدا
حمزة ليث الله يُدعى أسدا
وذا الجناحين تبوّى مقعدا
فقاتل قتال الاسد الباسل. وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتى اُثخن بالجراح ووقع على وجهه بين القتلى... فلم يزل كذلك وليس به حراك، فظُن انه قُتل. ولم يستطع سويد ان ينهض، حتى قُتل بنو هاشم وآل ابي طالب، وحتى استشهد الامام الحسين صلوات الله عليه، فسمع سُويد ـ وقد أعياه نزيف الدم ـ من عسكر ابن سعد يتصايحون: قُتل الحسين! فوجد سويد في نفسه افاقة، فتحامل ان ينهض منتقماً لأمامه وقد غلت دماؤه غيرة ً وغضبا ً، وكان معه سكين قد خبأها في خُفّه، فاستهلها ولم يكن عنده غيرها، فجعل يقاتلهم مترنحا ً بسكينه، ثم انهم تعطفوا عليه فقتله عروة بن بكار التغلبيّ، وزيد بن ورقاء الجُهنيّ، وكان سويد بن عمرو آخر قتيل بعد الحسين عليه السلام.
فسلام من الله تبارك وتعالى على جميع شهداء طفّ كربلاء، ومن الامام المهدي خاتم الاوصياء، حيث يقول في خاتمة زيارته الشريفة للشهداء: "السلام عليكم يا خير انصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، بوّأكم الله مبوّأ الابرار...".