الحمد لله رب العالمين، وأطيب الصلوات وأزكاها على حبيب الله المصطفى الامين، وعلى آله الهداة الميامين.
إنّ واقعة الطف الكبرى يوم عاشوراء،كانت امتحانا ً عظيما ً للامة، انشطر على اثرها الناس، وسقطت أقنعة المنافقين، وامتاز أصحاب المودة والنصرة لرسول الله عن المدعين والمتخاذلين، فكلّ امرئ ٍ لا بدّ أن يعلن موقفه، فقد انقضت مرحلة التقمّص وأن يكون الدين لعقا ً في الافواه يلوكه الناس مادرّت معايشهم، وجاءت مرحلة التمحيص بالبلاء، حيث يقلُّ الديانون، ويمتاز الاخيار عن الاشرار... فيتقدم عمرو بن قرظة ينصر ابا عبد الله الحسين عليه السلام ويقف دونه يتلقى السهام والرماح ببدنه حتى يقع على الارض شهيداً، فيرفع طرفه الى مولاه يتحقق منه الرضى عنه. وما هي إلا لحظات حتى يخرج اخوه علي بن قرظة لينتصر لعبيد الله بن زياد، فيتجاسر على سيدد شباب اهل الجنة... عندها ينبري له نافع بن هلال الجمليّ فيصرعه بطعنة ٍ مُردية لولا أن يستنقذه أصحابه أصحاب الضلال فيحملوه جريحاً ينتظر ساعة الهلاك والرحيل الى جحيم العذاب الابديّ، وقد سبقه أخوه الى رحاب النعيم الابدي ّ.
وبعد ضرب نافع بن هلال لعليّ بن قرظة... جالت خيل الاعداء، فحمل عليها نافع، وجعل يضرب فيها قدما ً وهو يرتجز ويقول:
إن تنكروني فأنا ابن الجملي
ديني على دين حسين بن علي
فنادى به مزاحم بن حُريث يقابله: وأنا على دين "فلان"!
فأجابه نافع: أنت على دين الشيطان! ثم شدّ عليه بسيفه، فأراد مزاحم أن يولي ويتحاشاه، لكنّ سيف نافع الجمليّ سبق اليه، فسقط مزاحم قتيلا ً... عندها صاح عمرو بن الحجاج من جهة جيش عمر بن سعد بأصحابه: أتدرون من تقاتلون؟! لا يبرز اليهم منكم أحد.
وكان نافع بن هلال ٍ يقاتل في ساحة كربلاء قتالاً شديداً، يجول في الميدان وهو يرتجز ويقول:
انا ابن هلال الجملي
أنا على دين علي
ودينه دين النبي
فبرز اليه رجل من بني قطيعة، فقتله... قال الشيخ المفيد: فصاح عمرو بن الحجاج بالناس: ـ يا حمقى! أتدرون من تقاتلون؟! إنما تقاتلون فرسان أهل البصائر، وقوما ً مستميتين، لايبرز منكم احداً إلا ّ قتلوه، على قلتهم... والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم!
فقال له عمر بن سعد: ـ الرأي ما رايت. فأرسل في الناس من يعزم عليهم ألا يُبارزهم رجل منهم، وقال لهم: لو خرجتم اليهم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة!
وبرز نافع بن هلال الجمليّ مرة أخرى الى ساحة المعركة، وبادر هذه المرة الى مهاجمة الاعداء بنبال مسمومة كتب على افواهها اسمه، وجعل يرميها عليهم وهو يرتجز ويقول:
أرمي بها معلمة ً أفواقها
مسمومة تجري بها أخفاقها
ليملأنَّ أرضها رشّاقها
والنفس لا ينفعها إشفاقها
فقتل بسهامه اثني عشر رجلاً من أصحاب عمر بن سعد، سوى من جرحهم.. حتى انتهت نباله، عندها جرّد سيفه يضرب في جمع اعدائه يميناً وشمالاً وهو يحمل ويكرّ، ولا يفرّ، بل يقول:
أنا الهزبرُ الجملي
أنا على دين علي
وروي ايضا ً انه كان يقول في ارتجازه:
أنا الغلام اليمنيّ الجمليّ
ديني على دين حسين بن علي
إن أ ُقتل اليوم فهذا أملي
فذاك رأيي، وأ ُلاقي عملي
فقتل ثلاثة عشر رجلا ً... فتواثبوا عليه وأحاطوا به يرمونه عن بعد ٍ بالحجارة والنَّصال، متحاشين منازلتهع، حتى كسروا عضديه وأخذوه أسيراً!
ويتصور الاعداء ان الاسير من المؤمنين يضعف فيطلب العفو بذلة، فأذا بهم يرونه أصلب من الجبل، يؤتى بنافع بن هلال الجملي ّ أسيراً الى عمر بن سعد في ساحة كربلاء، فيقول له سعد: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك؟!
فيجيبه نافع: إنّ ربي يعلم ما أردت.
فقال رجل ـ وقد نظر الى نافع والدماء تسيل على وجهه ولحيته: أما ترى ما بك؟!
فيجيبه نافع: والله لقد قتلت منكم اثني عشر رجلاً سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني.
فقال شمر لابن سعد: اقتله ـ أصلحك الله!
قال عمر بن سعد له: أنت جئت به، فإن شئت فأقتله انت.
فجرّد شمر سيفه... وقبل ان يرفعه قال له نافع يوّبخه: اما والله يا شمر لو كنت من المسلمين، لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا! فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه.
فما كان من الشمر ـ عليه لعائن الله ـ إلا أنْ قدّم نافع بن هلال وضرب عنقه وفيه يقول الشاعر واصفاً شجاعته، وذاكراً شهادته:
ألا رُبَّ رام ٍ يكتب السهم نافعاً
ويهني به نفعا ً لآل محمد
إذا ما أرنّت قوسه فاز سهمها
بقلب عدوٍ أوجناجن معتدي
فلو ناضلوه ما أطافوا بغابه
ولكن رموه بالحجار المحدَّد ِ
فأضحى خضيب الشيب من دم رأسه
كسير يدٍ ينقاد للاسر عن يد ِ
وما وجدوه واهنا ً بعد اسره
ولكن بسيما ذا براثن مُلبد ِ
فإن قتلوه بعدما ارتثَّ صابراً
فلا فخر في قتل الهزبر المخضّدِ
ولو بقيت منه يد لم يقد لهم
ولم يقتلوه لو نضا لمُهنَّد ِ
ذاك شرف عتيد ناله نافع بن هلال الجمليّ، وأيُّ شرفٍ ذاك الذي ناله من بعده، حيث يتوجه اليه الامام المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه بالسلام عليه، في ضمن زيارته عليه السلام لشهداء طفّ كربلاء، فيقول: السلام على نافع بن هلال بن نافع البجليّ المراديّ.