بسم الله، والحمد لله، وأزكى الصلاة والسلام على حبيب الله، المصطفى محمد ٍ وعلى آله أولياء الله.
إنّ مما اذهل المؤرخين أسرار النهضة الحسينية الشريفة، فهي عجيبة وغريبة، كما كانت مصيبة الامام الحسين عجيبة وغريبة؛ فقد حام حول الامام الحسين اليبط صلوات الله عليه ذوو القربى والاصحاب، الكهول والفتيان، الرجال والنساء، الاحرار والعبيد. كل يرى في ابا عبد الله الحسين إماماً وأباً رؤوفاً رحيماً، لا يريد بالناس الا الخير والحقَّ والفضيلة والسعادة، جاءهم بالمحبة والمحجّة معاً، ليهديهم وينقذهم، ويخرجهم من ظلمات الفتن الى انوار البصيرة والمعرفة. وكان لا بد من موقف حازم، ووقفة شجاعة، ولكمة حق في وجه إمام جائر... وكان لذلك سيّد شباب اهل الجنة... الحسين بن عليّ، فقام لله، ولبّى دعوته الحقة رجال صدقوا، فجاهدوا معه واستشهدوا... كان من بينهم (جون)، وما ادرانا من (جون)!
هو جون بن حويّ، كان عبدا ً مملوكا ً اشتراه الامام أمير المؤمنين عليه السلام ثم وهبه للصحابي أبي ذرّ ٍ الغفاريّ، وبعد وفاة ابي ذر رضوان الله عليه رجع جون الى الامام الحسن المجتبى عليه السلام.
في (ذخيرة الدارين) قال الفتونيّ: كان جون منظما ً إلى اهل البيت عليهم السلام بعد ابي ذر رضي الله عنه، فكان مع الحسن بن عليّ، ثم انضم الى الحسين، وصحبه في سفره الى مكة ثم الى العراق.
وفي (شُعب المقال) كتب ابو القاسم النراقيّ: جون مولى ابي ذرّ، ومن حواريي الامام الحسين عليه السلام، قُتل في كربلاء.
أما في كتابه (حياة الامام الحسين عليه السلام) فقد كتب الشيخ باقر شريف القرشيّ مُعرّفا ً: جون... من أفذاذ الاسلام، كان شيخاً كبيراً قد أترعت نفسه الشريفة بالتقوى والايمان.
من منّا لم يعرف أبا ذر الغفاريّ، المتفاني في حب أهل البيت عليهم السلام؛ إذا كان معتقداً أنّ وجودهم هو وجود الاسلام، فروى هذا الصحابي الجليل عن رسول الله صلى الله عليه وآله عيون الروايات في فضائلهم صلوات الله عليهم.
من ذلك ما نقله عنه أبو رافع مولى ابي ذر، قال: صعد ابو ذر ّ على درجة الكعبة حتى أخذ بحلقة الباب، ثم اسند ظهره الى الباب فقال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن انكرني فأنا ابو ذرّ... سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (أنما مثل أهل بيتي في هذه الامة كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تركها هلك). وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إجعلوا أهل بيتي منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العينين من الرأس؛ فإنّ الجسد لا يهتدي إلا ّ بالرأس، ولايهتدي الرأس إلا ّبالعينين).
أجل هكذا نقل أبو ذرّ، وأراد أن يفهم الناس أهمية الامامة ومن هو أهل لها، وماذا يترتب على الامة من تكاليف مع الامام الحقّ، ومن أوجب الله حُبَّهم ومودّتهم، وطاعتهم والاقتداء بهم. نعم، وقد ورّث أبو ذر رحمه الله مولاه (جون) حُب آل محمد صلوات الله عليه وعليهم، ووجوب نصرتهم والدفاع عنهم، فأكرم به من إرثٍ وميراث.
التحق جون مولى ابي ذرّ الغفاريّ بالركب الحسينيّ، وسمع من الامام الحسين عليه السلام إذنين بالانصراف عن كربلاء:
الاول: عامُّ للاصحاب، قائلا ً لهم: (انطلقوا جميعا ً في حل ّ، ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا)، فأبى الاصحاب جميعا ً، وتقدموا مقبلين على الشهادة.
والاذن الثاني: الذي سمعه (جون) كان إذنا ً خاصا ً لبعض الاصحاب، ووجَّه الامام الحسين عليه السلام اليهم على وجه التعيين، كان منهم جون نفسه، حيث خاطبه الامام ابو عبد الله الحسين سلام الله عليه قائلا ً له: (أنت في إذن ٍ مني؛ فإنما تبعتنا طلبا ً للعافية، فلا تبتل ِ بطريقنا)، وتلك هي الشفقة الحسينية الحيمة... لكن، ماذا ـ يا ترى ـ كان قد أجاب جون به إمامه؟!
صحيح أن (جون) كان مملوكا ً، لكنه كان مملوكا ً لإمام الرحمة، وقد عاش في ظله فتلقى معرفة وهدىً وبصيرة، وتعلق به، فأبى ضميره ألا ّ يفي لإمامه وقد تنعّم بصحبته، فلما إذِن له الامام الحسين عليه السلام بالانصراف، ماكان من (جون) إلا ّ أن قال يخاطبه بلهجة التوسل: يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحسُ قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم؟! والله إنّ ريحي لنتن، وإنّ حسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفَّس عليَّ بالجنّة؛ فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضَّ وجهي ... لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الاسود مع دمائكم.
إنه العزم والوفاء معاً، والنُصرة وعرفان الجميل معاً، والطمع في الكون مع آل محمد صلوات الله عليهم ... حتى في ساحات الوغى والحتوف.
«الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ». (سورة الرعد، 29).