السلام عليكم يا انصار ابي عبد الله، بأبي أنتم وأمي، طبتم وطابت الارض التي فيها دُفنتم، وفزتم فوزاً عظيما ً، فياليتني كنت معكم، فافوز معكم.
إنّ التوفيق كلمة تجري كثيرا ً على الالسن، ويفهم الناس منها معاني عديدة ومقاصد شتى. وفي اللغة: وَفِقَ الامر يَفِقُ وَفْقاً: كان صوابا ً وموافقا ً للمراد، ووفّق الله فلاناً: الهمه الخير، وفّق الله أمر فلان: أعطاه له مُوافقا ً لمُراده.
نعم، وقال اهل الفهم يُضاف التوفيق الى الله تعالى ويُنسب اليه؛ لانه تعالى هو السبب الحقيقي الذي يربط الاسباب بالمسببات، وقد جاء على لسان شعيب ٍ عليه السلام قوله: «وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (سورة هود، 88)، اي كل يترشح من ارادتي وتدبيري إنما هو بالله سبحانه لا غنى ً عنه. وفي ظلّ الاية المباركة هذه روي عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: إذا فعل العبد كا امره الله عزوجلّ به من الطاعة، كان فعله وفقا ً لأمر الله عزوجلّ، وسُمي العبد موفقا ً.
أجل وقد كان اصحاب الامام الحسين موفقين حقا ً؛ لأنهم حكَّموا الايمان في قلوبهم، وحكموا الحق في عقولهم، وكسروا موانع الدنيا والشهوات في نفوسهم، فانضموا الى حبيب الله ورسوله.. أوفياء مخلصين، غيارى مضحين، حتى قال فيهم الشاعر الاديب يُفدّيهم:
بأبي من شروا لقاء حُسين
بفراق النفوس والارواح ِ
أدركوا بالحسين اعظم عيد
فغدوا في منى الطفوف اضاحي
وكان من اولئك الموفقين ابو ثمامة الصائدي، كاتب امام زمانه ابا عبد الله الحسين سلام الله عليه، وناصر مسلم بن عقيل سفير الحسين رضوان الله عليه، والتحق بالركب الحسيني بعد اختفاء ٍ من عبيد الله بن زياد إذ كان طلبه ليقتله، وكان ابو ثمامة قد حاصره في قصره قبل ان ينقلب اهل الكوفة على اعقابهم فيخذلوا مسلم بن عقيل عليه السلام.
وكانت ظهيرة يوم عاشوراء: وقد ثبت اصحاب الحسين عليه السلام في وجه حملات شنها الشمر بن ذي الجوشن، فطاعنوه وقاتلوه قتالاً شديداً، مع ان الاصحاب لم يكن فيهم الا اثنان وثلاثون، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة، حتى دنوا من الحسين وأصحابه، فرشقوهم بالنبل رشقة واحدة ً، فعقرت الخيول، واحتدم القتال حتى انتصف النهار، وبان العجز على ابن سعد في ان يكسر عسكر الحسين عليه السلام: فلم يزل الاصحاب الواحد منهم والاثنان يقاتلون، فيبين القتل فيهم؛ لقلتهم، ويُقتل من أصحاب عمر بن سعد العشرات فلا يُبين فيهم؛ لكثرتهم.
وفي تلك الساعة حانت من ابي ثمامة الصائدي نظرة الى شمس ظهيرة عاشوراء وقد علت نحو الزوال، والحرب قائمة، فالتفت الى مولاه الحسين قائلا ً له: يا ابا عبد الله، نفسي لنفسك الفداء، أني ارى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتى أُقتل دونك انشاء الله، وأ ُحب أن القى الله ربي وقد صليت هذه الصلاة التي دنى وقتها. والحسين عليه السلام يعلم، وهو المقيم الصلاة والصلاة أُقيمت به وبآله صلوات الله عليهم، ولكن ابا ثمامة كان موفقا ً؛ لان قلبه كان مع الحسين، وعلى مذهب الحسين، الذي كان عليه السلام عاشقا ً للصلاة، وكانت الصلاة قرة عينه الكريمة كجده المصطفى صلى الله عليه وآله، فرفع راسه الشريف الى السماء ثم قال لابي ثمامة: ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين.. نعم، هذا اول وقتها.
ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنّا حتى نصلي.
فصلى سلام الله عليه باصحابه صلاة تسمى في الاسلام بـ"صلاة الخوف " وهي الصلاة التي يؤديها المؤمن المجاهد في ساحة القتال خوفا ً منه ان تفوته إذا استشهد، فيؤديها على كيفية خاصة ذكرها القرآن الكريم في الآية الثانية بعد المئة من سورة النساء، ووصفها احد الادباء وقد أُقيمت ظهيرة عاشوراء، بإمامة سيد الشهداء.. قائلا ً:
وصلاة الخوف حاشاها... فما
روعت، والموت منها كان قابا
مالواها الموقف الدامي وما
صدها الجيش ابتعادا واقترابا
زحفت ضامئة والشمس من
حرّها تلتهب الارض التهابا
هزّت الجيش وقد ضاقت به
عرصة الطف سهولاً وهضاباً
سائل الميدان عنها سترى
كيف ارضته طعاناً وضراباً
كيف حامت حرم الله فما
خدشت عزاً.. ولاذلت جناباً
كيف دون الله راحت تدري
بهواديها سهاماً وكعاباً
ولما فرغ الامام الحسين من صلاته، خطب بأصحابه، فثارت غيرتهم على دينهم وحياة امامهم، وحرم آل نبيهم، فرأوا انفسهم رخيصة يقدمونها فداءاً للاسلام يطلبون مرضاة ربهم تبارك وتعالى، ويرضون ضمائرهم بدماءهم ولم يستقر لهم جنان وهم يرون الحسين غريب في طف كربلاء، فتقدموا يتسابقون الى المنية، مستئذنين سيّد شباب اهل الجنة أن يشرّفهم بقبول تضحياتهم بين يديه الشريفتين.
وخرج جملة من الاصحاب يقاتلون بين يدي امامهم ابي عبد الله الحسين عليه السلام حتى تهاووا كالكواكب على ثرى الطف، مضمّخين بدماء الشهادة الزاكية.. فيقف عليهم سيد الشهداء يؤبّنهم، ويقرأ قوله تعالى عليهم: «فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»، ويقول حزينا عليهم: عند الله احتسب نفسي وحماة اصحابي.
ويخرج في الاثناء ابو ثمامة الصائدي؛ إذ لم يطق صبراً، قائلاً للحسين عليه السلام: يا ابا عبد الله، انّي قد هممت ان الحق بأصحابي (اي الشهداء)، وكرهت ان أتخلف وأراك وحيدا ً من أهلك قتيلاً.
فقال له الامام الحسين: تقدَّم؛ فإنّا لاحقون بك عن ساعة.
فيتقدم ابو ثمامة كأنه اسد يجوب ساحة المعركة، فيقاتل قتال الابطال حتى يُخن بالجراحات، حتى اغتاله خؤون من اولاد عمه، الا ان ابا ثمامة نال بغيته وأمنيته، ملتحقاً بركب الشهداء الابرار الذين شرّفهم الامام المهدي صلوات الله عليه بزيارته لهم، ذاكرا ً فيهم الشهيد السعيد، بقوله: (السلام على ابي ثمامة عمر بن عبد الله الصائدي).