السلام على الارواح المنيخة بقبر ابي عبد الله الحسين عليه السلام، السلام عليكم يا طاهرين من الدنس، السلام عليكم يا مهديين، السلام عليكم وعلى الملائكة الحافّين بقبوركم أجمعين، جمعنا الله واياكم في مستقر رحمته، وتحت عرشه، انه أرحم الراحمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنّ المرء يُقيَّم بمواقفه، ويُكشف عن اعتقاداته وأخلاقياته بمواقفه، وتلك المواقف لا تنكشف الا بالامتحان، والافتتان..
والوقائع والحوادث هي امتحانات مستمرة لابدّ أن تواجه المرء مرّات.. ويواجهها كرّات، حينئذ لا محيص عن الموقف، ولاقيمة للادعاء الباطل.. قال تعالى «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ». (سورة العنكبوت، 2-3)، وقال جلّ وعلا «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (سورة التوبة، 162)، وقال عز من قائل: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ» (سورة آل عمران، 142).
وكان الامتحان يوم شدّ الامام الحسين صلوات الله عليه رحله عازما ً على السفر الى الله تعالى، ودعا كلَّ من يُريد ذلك السفر الشريف معه يُرافقه الى الرضوان الالهي الرفيع.. فالتحق به جماعة، ثم كان الافتنان يوم ايقن الجميع أن لاعودة الى الديار، وأنه للقتل لا محالة، وقد وُضع الاختيار أمام الجميع، فاختار أصحاب الحسين الحسين عليه السلام، وأختاروا السفر المقدس مع الحسين عليه السلام، وكان منهم ذلك البطل الشهم أبو ثمامة الصائديّ رضوان الله عليه.. فمن هذا الصائدي يا ترى؟
هو عمرو بن عبد الله بن كعب الصائد الهمداني الصائدي، وهمدان قبيلة معروفة بتطلعاتها في نُصرة الاسلام والاخذ بوصايا رسول الله صلى الله عليه وآله في أهل بيته سلام الله عليهم، فكانت منهم النُّصرة للامامة والخلافة الحقة التي عاهدوا عليها لا سيّما يوم غدير خمّ، وكانت النصرة منهم للائمة الهداة الميامين، من آل طه ويس، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وأبو ثمامة رجا تابعي من فرسان العرب ووجوه الشيعة، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وقد شهد معه حروبه، ثم صحب بعده ولده الامام الحسن المجتبى عليه السلام، ولازم الكوفة حتى انبثقت النهضة الحسينية المباركة.
وكان أبو ثمامة من أوائل المواكبين لنهضة سيد الشهداء الحسين.. فما أن هلك معاوية حتى كتب أبو ثمامة الى الامام بأستمرار ٍ ومواصلة. حتى اذا دخل الكوفة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، قام أبو ثمامة معه وصار يقبض الاموال من الشيعة فيشتري له السلاح، حتى إذا دخل عبيد الله بن زياد الكوفة وجّه مسلم ابا ثمامة عاقدا ً له على رُبع تميم وهمدان حين بدأ مسلم تحركه، فحاصر أبو ثمامة الصائدي عبيد الله في قصره.
ولمّا خذل الناس مسلم بن عقيل وتفرّقوا عنه، أخذ عبيد الله بن زياد يشتد في طلب أبي ثمامة ليقتله، فاختفى أبو ثمامة ثمّ خرج من الكوفة ليلتحق بالركب الحسيني الشريف هو ونافع بن هلال الجمليّ، فلقيا الحسين وهو في طريقه الى كربلاء، فانضما اليه يواصلانه، ويواكبانه.
في اليوم الثاني من المحرم نزل الامام الحسين أرض كربلاء، ونزلها عمر بن سعد يتكامل عسكره الى ثمانين الف فارس، فبعث الى الامام الحسين عليه السلام كثير بن عبد الله الشعبيّ وكان رجلا ً فاتكا ً قائلا ً له: إذهب الى الحسين وسله ماالذي جاء به!
فأجابه كُثير: أسأله، وإن شئت فتكت به.. ثمّ أقبل الى الامام الحسين عليه السلام.. فرآه ابو ثمامة الصائديّ، فقال للامام: أصلحك الله يا ابا عبد الله، قد جاءك شرُّ أهل الارض وأجرأهم على دم ٍ وأفتكهم. ثم نهض أبو ثمامة الى كثير الشعبي قائلا ً له: ضع سيفك.
فأجابه كثير بغلظة: لا ولا كرامة، إنما انا رسول، فإن سمعتم مني أبلغتكم ما أُرسلت به اليكم، وإن ابيتم انصرفت عنكم.
فقال له ابو ثمامة: فإي آخذ بقائم سيفك، ثم تكلم بحاجتك.
قال: لا والله ولا تمُسَّه!
فقال ابو ثمامة له: فأخبرني بما جئت به، وأنا أبلغه عنكّ، ولا أدعك تدنو من الحسين؛ فإنك فاجر!
قال الراوي: فاستتبا، ثم رجع كُثير الى ابن سعد ٍ فأخبره الخبر، فأرسل ابن سعد قُرة بن قيس التميميَّ الحنظليَّ مكانه مضطراً، فكام الحسين عليه السلام.
وهكذا كان ابو ثمامة الصائدي رضوان الله عليه درعا ً في فدائه للامام أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة، دعته غيرته على إمامه ألا ّ يدنو منه عدوّ فاتك، مقدما ً نفسه امامه ترسا ً دون الغدر تضحية ً وإخلاصاً ووفاءاً وحباً لمولاه ريحانة المصطفى صلى الله عليه وآله.