واتى المساء وقد تجهم نجمه
واليوم محتشد البلاء عصيب
قال: اذهبوا، وانجوا، ونجوا
اهل بيتي...انني وحدي انا المطلوب
لاذمة مني عليكم، لا... ولا
حرج ينالكم ولا تثريب
فأبت نفوسهم الابية عند ذا
ان يتركوه مع العدى ويتأوبوا
وتواثبت ابطالهم... وجميعها
بالحزم والقول السديد تجيب
كلا... فلسنا تاركيك، وما به
يوم القيامة للنبي نجيب؟!
نفديك بالمهج الغوالي نبتغي
الرضـــــوان... ما فينا بذاك مريب
لقد اقدم الامام الحسين عليه السلام على الشهادة، وعرف اصحابه طريقه اليها؛ لكي لا يتبعه طامع بدنيا ظاناً انه مقبل على نصر دنيوي، وقد تكرر من ابي عبد الله الحسين في المدينة ومكة، في خطبته الشريفة ورسائله واحاديثه، انه مقتول لا محالة، وحتى ليلة عاشوراء، قدم سلام الله عليه الخيار لاصحابه ان يرحلوا ان شاؤوا، اذ خاطبهم بقوله: ان القوم يطلبوني، ولو اصابوني لهوا عن طلب غيري، وهذا الليل غشيكم فاتخذوه جملا.
فقال له اهل بيته ـ تقدمهم العباس عليه السلام بالقول ـ: لم نفعل ذلك، لنبقى بعدك؟! لا ارانا الله ذلك ابداً.
اما من الاصحاب، فقد نهض مسلم بن عوسجة فأدلى بموقفه الشجاع الغيور، وعبر عن رأيه وولائه الصادق ووفائه الراسخ، قائلا: انحن نخلي عنك؟! وبماذا نعتذر الى الله في اداء حقك؟! اما والله لا افارقك حتى اطعن في صدورهم برمحي، واضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولولم يكن معي سلاح اقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتى اموت معك.
هكذا قالها هذا الرجل عن صدق وايمان، فمن يكون مسلم بن عوسجة يا ترى؟!
هو مسلم بن عوسجة بن سعد.. يكنى بـ (ابي جحل)، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن عباد الكوفة وملازمي جامعها الاعظم. عرّف به حجر العسقلاني بانه كان رجلا شريفا، عابدا قارئا للقران متنسكا.
وقال ابن سعد في (الطبقات الكبرى): كان مسلم بن عوسجة صحابيا، ممن رأى النبي صلى الله عليه واله، وكان فارسا شجاعا، له ذكر في المغازي والفتوح الاسلامية.
فيما كتب المامقاني في (تنقيح المقال): جلالة الرجل وعدالته، وقوة ايمانه وشدة تقواه.. مما تكل الاقلام عن تحرير ذلك، وتعجز الالسن عن تقريره، ولم يكن في حقه الا ما تضمنته (زيارة الناحية المقدسة) لكفاه.
وفي (الاعلام) كتب الزركلي: مسلم بن عوسجة الاسدي، بطل من ابطال الاسلام، وشهيد يوم اذربيجان و غيره من ايام الفتوح، وكان مع الحسين بن علي في قصده الكوفة، فقتل وهو يناضل عنه.
اما في (الامالي المنتخبة) فقد كتب الشيخ عبد الواحد المظفر: اذا كانت البطولة عنوان المحاسن ومجمع الكمالات ومحور الفضائل... فلا شك ان مسلم بن عوسجة الاسدي من اتم الرجال في المحاسن التي يتفاخر باقلها عظماء الرجال، ويتمادح ببعضها الوجوه والاعيان، ويتفاخر بفضيلة منها سائر اهل الكمال، نحو: العلم، والتقوى، وشدة البأس، والشجاعة، والفصاحة، والوفاء والايثار، مع ما له من فضيلة الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله، والاختصاص بعلي امير المؤمنين عليه السلام.
عرف مسلم بن عوسجة بالبطولة والشهامة، وكانت له مواقف بطولية في حياة الاسلام، ففي السنة الثانية والعشرين من الهجرة النبوية المباركة، وقف جيش المسلمين على ابواب آذربيجان ـ وهي اقصى حدود البلاد الاسلامية من جهة الشمال يومذاك. وكان مسلم بن عوسجة في طليعة الجيش الذي دك حصون الشرك، فسجل له التاريخ حضوره المقدام حتى شاهد بطولته بعض اهل الكوفة ممن حضروا، ثم شهدوا له بذلك يوم عاشوراء بعد مصارعه، اذ صاحت جاريته: يا سيداه، يا ابن عوسجتاه!
وتباشر جيش عمر بن سعد بمقتل مسلم بن عوسجة، فقال شبث بن ربعي (وكان يومها قائد ميمنة جيش ابن سعد) لبعض من حوله: ثكلتكم امهاتكم! انما تقتلون انفسكم بايديكم، وتذللون انفسكم لغيركم، وتفرحون ان يقتل مثل مسلم بن عوسجة؟!
اما والذي اسلمت له، لرب موقف له قد رأيته في المسلمين كريم، لقد رأيته يوم (سلق آذربيجان) قتل ستة من المشركين قبل ان تتام خيول المسلمين، افيقتل منكم مثله وتفرحون؟!
واما في حركة الشهيد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه وكان سفير الامام الحسين عليه السلام الى اهل الكوفة وقد كاتبوه ـ فقد كان مسلم بن عوسجة الاسدي الرجل المؤيد والمعاضد لهذه الحركة المباركة، وكان ممن يتصل ببيت هاني بن عروة، بل اصبح احد اقطاب الحركة التي ارادت ان تطيح بامارة عبيد الله بن زياد ابن ابيه... وبقي مع مسلم بن عقيل حتى كان ما كان من غدر اهل الكوفة وشهادة سفير الحسين مسلم.
حتى اذا وافت الانباء بقدوم الامام الحسين صلوات الله عليه نحو الكوفة، كان مسلم بن عوسجة في طليعة المناصرين المخلصين.