السلام عليك يا ابا عبد الله وعلى الارواح التي حلت بفنائك، واناخت برحلك، عليكم منّي جميعا سلام الله ابداً ما بقيت وبقي الليل والنهار.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعظم الله لكم العزاء بالمصيبة العظمى التي حلت بآل بيت رسول الله، بالحسين وآل الحسين، وقد تلوناها في زيارتنا؛ قائلين مخاطبين: يا أبا عبد الله، لقد عظمت الرَّّّزية، وجلت وعظمت المصيبة بك علينا وعلى جميع أهل الاسلام، وجلت وعظمت مصيبتك في السموات على جميع اهل السموات. ورحم الله الشاعر حيث يرثي سيد الشهداء صلوات الله عليه، فيقول:
بأبي الظامي على نهر الفرات
دمه روى حدود المرهفات
لست انساه وحيداً يستجير
ويناديهم: ألا هل من مجير!
ويرى اصحابه فوق الهجير
صُرَّعا ًمثل النجوم الزاهرات
فدعاهم وهم فوق الرُّغام
جثم ما بين شيخ وغلام
نومكم طال فقوموا يا كرام
وادفعوا عن حُرم الله الطغاة
لم أدعوكم فلا تستمعون
أمللتم نُصرتي، أم لاتعون!
بكم قد غدر الدهر الخَؤون
ورماكم بسهام الحادثات
شهد يوم العاشر من المحرم عام واحد وستين للهجرة، ملحمة فريدة عظمى على ارض كربلاء... يوم صفّ الامام الحسين عليه السلام أصحابه للقتال دفاعاً عن حُرم الله، وحرم دين الله، فجعل زهير بن القين في الميمنة، وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وثبت هو عليه السلام وأهل بيته في القلب، وأعطى رايته أخاه العباس قمر الهاشميين وأكفأهم لحملها. ولم يكن مع الحسين عليه السلام الا نيّّف وثمانون فارسا ً وراجلا ً، بعدما التحق به من عسكر الاعداء جماعة ليلة عاشوراء، فيما زحف عمر بن سعد في ثلاثين الفا من جيش الشام التحق بهم النافقون والناكثون والغادرون.
وبعد خُطب ٍ ومحاورات، تقدم عمر بن سعد عليه لعائن الله نحو عسكر الحسين فرمى بسهم الفتنة مُعلنا ً: إشهدوا لي عند الامير أنيّ أول من رمى. ثم رمى الناس بعدهم برشق ماطر ٍ
من السهام آلافا نحو عسكر سيد الشهداء، فلم يبق من أصحاب الحسين أحد الا أصابه من سهامهم، فنادى الحسين صلوات الله عليه بأصحابه: قوموا (رحمكم الله) الى الموت الذي لا بدَّ منه؛ فإن هذه السهام رُسُل القوم اليكم. فنهض الاصحاب وهم جرحى يستعينون بأيمانهم، وهمتهم في طاعة امامهم، وحملوا حملة رجل واحد، واقتتلوا ساعة... فما انجلت الغبرة إلا ّ عن خمسين شهيدا ً منهم.
وبدأت المعارك... فخرج يسار مولى زياد، وسالم مولى عبيد الله بن زياد، وطلبا البراز، فخرج اليهما عبد الله بن عُمير الكلبي من عسكر الحسين فقتلهما... ولما رأى الحسين صلوات الله عليه كثرة من قُتل من أصحابه، أخذ الرجلان والثلاثة والاربعة يستأذنونه في الذب عنه فيأذن لهم، وكل يحمي الاخر من غدر الاعداء وكيدهم.
فخرج الجابريان: سيف بن الحارث ومالك بن عبد فقاتلاً حتى استشهدا، وكانا ابني عمّ وأخوَ من الام ّ.
ثم خرج الغفاريان: عبد الله وعبد الرحمان ابنا عُروة، فجعلا يقاتلان بين يدي الحسين حتى استشهدوا ايضا ً.
وسمع الانصاريان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسين واستغاثته، وكانا في عسكر ابن سعد، فمالا بسيفيهما على أعداء الحسين، ثم قاتلا حتى قُتلا رضوان الله عليهما.
وبعد ان بان النقص في أصحاب الامام الحسين عليه السلام، أخذ يبرز الرجل بعد الرجل، فأكثروا القتل في أعداء الله، فصاح عمرو بن الحجاج بأصحابه: أتدرون من تقاتلون ؟! تُقاتلون فرسان المِصر، وأهل البصائر، وقوما مُستميتين، لا يبرز أحد منكم اليهم إلا ّ قتلوه على قلتهم، والله لو لم ترموهم الا ّ بالحجارة لقتلتموهم
ثم حمل عمرو بن الحجاج على ميمنة عسكر الحسين، فثبت الاصحاب الغيارى له، وجَثوا على الرُّكب، وأشرعوا الرماح فلم تقدم خيل عمر بن سعد، فلما ولت الخيل رشقهم أصحاب الحسين بالنبل، فصرعوا رجالا ً وجرحوا آخرين.
ويستمر القتال، يخرج الرجل الواحد من الاصحاب يقاتل بشجاعة وعزّة وأنفة عالية، فيُحيط به مئات من الجبناء يرمونه بالسهام والحجارة من بُعد ٍ لا يدنون نحوه، حتى اذا أ ُصيب أقبلوا نحوه يطعنوننه بالرماح ويضربونه بالسيوف، فقتلوا مسلم بن عوسجة، وحبيب بن مظاهر، والحرّ الرياحي وابنه، وابا ثمامة الصائدي، وزهير بن القين، وعمرو بن قرظة، ونافع الجميلي، زأسلم التركي، وبُرير بن خُضير، وحنظلة الشامي، وعابس الشاكري، وجون مولى ابي ذر الغفاري، وأنس الكاهلي، وعمرو بن جُنادة، والحجاج الجعفي، وسوارا ً وسُويد بن عمرو، وبقية الاصحاب الطيبين الغيارى، الذين قدّموا مُهجهم المؤمنة بين يدي أبي عبد الله الحسين سلام ربنا عليه وعليهم، فوقعوا على الارض صرعى يخاطبهم الشاعر بقوله:
يا ليتني كنتُ الفداء لأنفس ٍ
فدت ابن بنت نبيها بحياتها
ولكم مررتُ بكربلا مُتمثلاً
شُهداءها صَرعى على ربواتها
فوقفت... واستوقفت فيها عُصبة
وقفوا نواظرهم على عبراتها
ولما قُتل الاصحاب جميعاً، لم ير الحسين من أنصاره الا ّ من صافح التراب جبينه، ومن قطع الموت انينه، فنادى بهم، يا مسلم بن عقيل، ويا هاني بن عُروة، ويا حبيب بن مظاهر، ويا زهير بن القين، ويا يزيد بن مظاهر، وهلال بن نافع... ولما عددهم بالنداء قال لهم: يا ابطال الصفا، ويا فرسان الهيجا، مالي اناديكم فلا تجيبون، وأدعوكم فلا تسمعون، أنتم نيام؟! أرجوكم تنتبهون،... قوموا عن نومتكم ايها الكرام، وادفعوا عن حُرم الرسول الطغاة اللئام، ولكن صَرَعكم ـ والله ـ ريب المنون، وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلا لما كنتم عن نُصرتي تُقصِّرون، ولا عن دعوتي تحتجبون، فها نحن عليكم مُفتجعون، وبكم لاحقون، فأنا لله وانا اليه راجعون.
قيل: فجعلت أجسادُ أصحاب الحسين تضطرب وتتقلب، وهي مقطعة مُطرَّحة على الارض تشخب دما، وكأنها تريد أن تنهض مُلبية ً مرّة ً أخرى لدعوة امامها الحسين، أولئك:
قوم إذا نودوا لدفع مُلمّة ٍ
والخيل بين مُدَعَّس ٍومُكردَس ِ
لبسوا القلوب على الدروع
يتهافتون على ذهاب الانفس ِ
نصروا الحسين... فيالهم من فتية
عافوا الحياة وأ ُلبسوامن سُندس ِ