السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى اولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
حقا ً ان الاقدام في المعارك يحتاج الى شجاعة وصبر، لكنه في الحياة الدينية يتطلب معرفة وبصيرة. والمعرفة عي غير العلم... فالكل كان يعرف من هو الحسين، وابن من هو الحسين، وحفيد وسبط من وريحانة من هو الحسين، ولكن.. ليس الكل ناصره وحامى عنه وفداه بنفسه ووالاه بقلبه، انما آزره وضحى من اجله أهل المعرفة وأصحاب البصائر وذوو القلوب النيرة...
أولئك الذين آمنوا حقا برسول الله صلى الله عليه وآله، وبما جاء به من عند الله تبارك وتعالى، وترشح ايمانهم عن حالات شريفة ومواقف مشرفة، وولاء صادق، واقدام واع ٍ منطلق عن قول حقيقي لله ولرسوله ولآل البيت، وبراءة ٍ مصرة ٍ من أعدائهم لا مداهنة فيها، فأبصروا الحقيقة...
قال الامام الباقر عليه السلام: «من سرّه ان لا يكون بينه وبين الله حجاب، حتى ينظر الى الله وينظر الله اليه... فليتولَّ آل محمد ويبرأ من عدوِّهم، ويأتَمَّ بالامام منهم...».
أجل... اولئك الذين عرفوا شيئا من مقام الامام الحسين ومنزلته وشرفه الاسمى، فأنجذبت ارواحهم اليه، وتمنت ان تكون له الفداء، بعد ان كانت من اهل المحبة والولاء.
وكان من اولئك: وهب بن عبد الله بن حبّاب الكلبيّ، ولم يكن هذا الشاب معروفا ً، ولم تؤثر عنه علوم او خُطب، بل قال المجلسي: رأيت حديثا ً أنّ وهبا ً هذا كان نصرانيا فأسلم هو وأمه على يدي الامام الحسين عليه السلام، وفي بعض الاخبار ان ناعية الحسين قد كسرت قلوبهم وهم يسمعون صوته السماوي ويرون في محياه سيماء الامامة التي هي وريثة النبوة.
في غمرة القتال يوم عاشوراء، يُستشهد «بُرير بن خُضير رضوان الله عليه» فيبرز من بعده شاب اسمه «وهب بن عبد الله الكلبيّ»، وقد كانت امه يومئذ ٍ معه، فقالت له: قُم يا بنيَّ فانصر ابن بنت رسول الله. فيبرز وهب وهو يرتجز قائلا ً:
إن تنكروني فأنا ابن الكلبي
سوف تروني وترون ضربي
وحمالتي وصولتي في الحرب
أدرك ثأري بعد ثأر صحبي
وادفع الكرب أمام الكرب
ليس جهادي في الوغى باللعبِ
ثم حمل حملته... فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة، فرجع الى امّه وامراته، فوقف وقال: يا أمّاه، أرضيت ِ؟
قالت: ما رضيت أو تُقتل بين يدي الحسين.
فصاحت عليه امرأته: بالله لا تفجعني في نفسك يا وهب.
قالت له امّه: يا بنيَّ لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول الله، فيكون غدا ً في القيامة شفيعا ً لك بين يدي الله تعالى.
يعود وهب بن عبد الله الكلبي الى ساحة المعركة وهو يرتجز ويقول:
إني زعيم لك أمُّ وهب
بالطعن فيهم تارة والضرب ِ
ضرب غلام مؤمن بالربِّ
حتى يُذيق القوم مرَّ الحرب ِ
إني أمرؤ ذو مرّةٍ وغضبِ
ولست بالخوّار عند النَّكْب ِ
فلم يزل زهب يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارسا ً من جيش عمر بن سعد وهو راجل، حتى قُطعت يداه، فلم تملك أمرأته نفسها، فأخذت عموداً وأقبلت نحوه تقول له:
- فداك ابي وامي يا وهب، قاتل دون الطيبين حرَم رسول الله. فاقبل عليها يريد ان يردها الى خيمة النساء، فأبت، وأخذت بجانب ثوبه وهي تقول له: لن اعود، او اموت معك.
فنادى عليها الحسين عليه السلام: جُزيت من أهل بيتي خيراً، إرجعي الى النساء رحمك الله. فأنصرفت!
وبقي وهب في ساحة المعركة يحاول القتال، حتى قُتِل رضوان الله عليه... فخرجت اليه زوجته وجلست عند رأسه تمسح الدم والتراب عن وجهه، وفجأة يراها شمر بن ذي الجوشن، فيأمر غلاماً له، فيضربها بعمود على رأسها فيشدخه، فتقع الى جانب زوجها وهب، وهي اول امراة تُقتل من عسكر الامام الحسين عليه السلام.
ورُوي ايضا ان وهبا ً هذا قتل اربعة وعشرين راجلا ً، حتى اذا استُشهد رُمي برأسه نحو عسكر الامام الحسين عليه السلام، فأخذت أمه الرأس فقبلته، ثم شدت بعمود الفسطاط على قتلته فقتلت رجلين منهم، فنادى بها الامام الحسين:
- ارجعي يا ام وهب، أنت وابنك مع رسول الله ؛ فأن الجهاد مرفوع عن النساء.
فرجعت وهي تقول: الهي لا تقطع رجائي.
فقال لها الحسين عليه السلام: لا يقطع الله رجاك يا أمَّ وهب.
كيف ياتحق وهب بن عبد الله الكلبيّ بالركب الحسيني وهو ناء ٍ عن ساحة كربلاء نشأة ً وحالا ً؟! وكيف يثبت في ساحة المعركة وقد أحاط به جيش من الاعداء فيصرّ على المقاتلة حتى الشهادة وهو شاب يافع قليل التجربة والممارسة؟ إنها البصيرة التي شعّت في قلبه وروحه، حتى دفعته الى اصعب المواقف فوجد نفسه على غاية من البسالة والشجاعة والاقدام، وعلى غاية من الرغبة في التضحية ولقاء الله في سبيله، فكان له ذلك التوفيق الرفيع, إذ أصبح شهيد كربلاء الحسين، وأصبح قبره الى حنب قبر ابي عبد الله الحسين، وأصبح يُبكى عليه في جملة أصحاب الامام الحسين:
وبكيت من بعد الحسين عصائباً
أطافت به من جانبيه قبورها
سلامٌ على اهل القبور بكربلا
وقَلّ لها مني سلام يزورها
سلام بآصال العشي وبالضحى
تؤديه نَكْباء الرياح ومُورُها
وشرف آخر يناله وهب، حين يُتلى عليه هذا السلام من قبل خاتم الاوصياء، الامام المهدي عليه الصلاة والسلام؛ وهو يقول في زيارته لاصحاب الحسين صلوات الله عليه:
السلام عليكم يا خيرَ انصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، بوّأكم الله مُبوَّأ الابرار. أشهد لقد كشف الله لكم الغطاء، ومهّد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء، وكنتم عن الحق غير بطاء، وأنتم لنا فُرَطاء، ونحن لكم خلطاء في دار البقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.