السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى اولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعظم الله لنا ولكم اجورنا بمصاب سيد الشهداء، وأهل بيته الابرار النجباء، واصحابه الاوفياء.
اذا كانت مقدمات فاجعة كربلاء ونكبة عاشوراء، أنّ ضمائر ماتت، فانحاز بعضها الى الباطل، وبعضها نكث وغدر أو قسط ومرق، وبعضها انزوى واعتزل ينجو بنفسه من الموت الذي لا بدّ منه ليقع في الهلاك الابدي، والعذاب الخالد السرمدي، فأن ملحمة الطف كانت وراءها ضمائر حية، وضمائر ابّية، بعضها كانت يقظا ً بصيرا ً من اول الطريق، وبعضها الاخر صحا وتيقظ في وقتها فأسرع الى جبهة الحق والنور والهداية وهؤلاء واولئك، كلهم نهضوا بهمّة الغيرة، وروحية الفداء والتضحية.
نفسي الفداء لمعشر ٍ قد جعلوا
نفوسهم بالطف للسبط وِقى
قَلوا... ولكن كلُّ فردٍ منهم
يُغني عن الالف إذا خَطْب عرا
حاموا عن الدين الحنيف جُهدهم
حتى ثووا صرعى على
وجه الثرى قَضَوا عُطاشى
والفرات حولهم فليته للواردين ما صفا
أقبل الحر الرياحي ّ على رأس الف فارس من قِبل عبيد الله بن زياد؛ ليصدَّ الامام الحسين(ع) عن الدخول الى الكوفة... حتى اذا وصل منزل ]شَراف[ قال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشِّفوا الخيل ترشيفا ً. ففعلوا، ولم يزل الحرّ موافقا لسيد الشهداء حتى حضرت الصلاة صلاة الظهر، فكان منه عليه السلام خطبة موجزة كشف بها حقائق لهم، فسكتوا، ثم قال الحسين عليه السلام للحرّ: أتريد ان تصلي بأصحابك؟
قال: لا، بل تصلي انت ونصّلي بصلاتك. فصلى بهم الحسين سلام الله عليه.
وكان بعد ذلك خطبة من الامام الحسين(ع) أخرى وقت العصر... قال فيها: ايها الناس، فأنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لاهله يكنْ أرضى لله، ونحن - اهل البيت - أولى بولاية هذا الامر عليكم من هؤلاء المُدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان.
ثم اشهَدَ القوم على كتبهم التي دعوه فيها الى القدوم عليهم، فلما تساءل الحرّ، قال الحسين(ع): يا عُقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيها كتبهم اليّ.
قال الحرّ: إنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك، وقد أ ُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نُفارقك حتى نُقْدمك على عبيد الله بن زياد.
فأجابه الحسين: الموت أدنى اليك من ذلك.
ورأى الحرُّ الرياحي شيئا ً من أخلاق الامام الحسين عليه السلام وفضائله فأنارت قلبه، وأثارت عاطفته، فأرتقى في استكمال نفسه الى العلوّ في طلب السعادة الحقيقية، وكانت في ذلك الموقف لا تُنال الا بالانحياز الى صفّ الامام الحسين وطلب الشهادة بين يديه.
فأقبل على عمر بن سعد يسأله: أمقاتل انت هذا الرجل؟!
قال: اي والله قتالا ً أيسره ان تسقط فيه الرؤوس وتطيح الايدي!
سأل الحرُّ مرة أخرى: فمالك في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضى؟!
قال ابن سعد: أما والله لو كان الامر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى!
فأنحاز الحرّ كأنه يُريد أن يسقي فرسه الماء وقد أخذته الرعدة، وكانت خشية ً من الله تعالى، ويقظة ً باصة وقد جدّ الامر وبلغ السّيل الرُّبى.
فقال: إني والله أ ُخيرُّ نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختارُ على الجنة شيئا ً ولو قُطِّعتُ وحُرِّقت.
كان هذا جوابه للمهاجربن أوس الرياحيّ لما سأله: مالذي أرى منك؟!
أما حقيقة الحرّ فهي أنه يحب ّ الحسين ولا يرضى أن يُقتل، بل جاء اليه وقد قلب تِرسَه ويده على رأسه وهو يقول: اللهم اليك تبت، فتُبْ عليّ؛ فقد أرعبت قلوب اوليائك، وأولاد بنت نبيك.
ثم توجّه للامام الحسين عليه السلام يقول له: جعلني الله فداك... والله الذي لا اله الا ّ هو، ماظننتُ أنّ القوم يردُّون عليك ما عَرضتَ عليهم ابدا ً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة.. وإني قد جئتُ تائبا ً مما كان مني الى ربي، ومواسيا ً لك بنفسي، حتى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟
قال الحسين عليه السلام: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك، فانزلْ.
قال: أنا لك فارسا ً خير منّي راجلا ً، أقاتلهم على فرسي ساعة، والى النزول يكون آخر أمري. أي لا يكون لي نزول عن فرسي إلا ّ وأكون عندها قتيلا ً شهيدا ً بين يديك، مكفراً بذلك ذنبي.
فقال الحسين عليه السلام: فاصنع ما بدا لك.
وقبل ان يشهر الحرُّ الرياحيّ سيفه، ادلى بخطبة ٍ على جيش عمر بن سعد، يُذكرّهم ويحتجّ عليهم، كان آخرها قوله: بئسما خَلفتم محمدّا ً في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا انتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.
فحَمَل عليه الرجّالة ترميه بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الامام الحسين عليه السلام، ثم خرج بعد الحملة الاولى الى ساحة المعركة وهو يرتجز:
إنيّ أنا الحرُّ ومأوى الضَّيف
أضرب في أعناقكم بالسيف ِ
عن خيرِ من حلَّ بأرض الخيف ِ
وحمل حملات... وصال صولات... وأدار رَحى الحرب وحدَه، يحصد الرؤوس, ويُخمِد الانفاس والنفوس، فقتل العشرات حتى ضجّ العسكر وعجز عنه، فنادى ابن سعد بالرماة والنبالة، فأحدقوا به من كل جانب يرمونه، فنزل عن فرسه يكرّ عليهم راجلا ً حتى استُشهد رضوان الله عليه، فجيء به الى الامام الحسين فجعل يمسح الدم والتراب عن وجه ويقول له: ما أخْطَأتْ أ ُمُّكَ إذ سَمَّتك حُرّا ً، انت الحرُّ في الدنيا والاخرة. ثم استعبر عليه السلام، وذلك شرف عظيم للحرّ، وقيل ان الامام الحسين(ع) قال فيه:
فنعم الحرُّ حرُّ بني رياح
صبورٌ عند مشتبك الرماح ِ
ونعم الحرُّ إذ واسا حُسينا
وجاد بنفسه ِ عند الصفاح ِ
وشَرَفٌ آخر ناله الحرّ حين خصه الامام المهدي عليه السلام في زيارته، فقال: «السلام ُ على الحُرِّ بن يزيد الرّياحيّ».