كانت عيناه تحدقان بغضب نحو ذاك الرجل القروي كما تنبأ عن ذلك هيئته وملابسه المتواضعة لقد اغاظه ان يتخطى هذا القروي صفوف المصلين ليقف في الصف الاول، ما اشد صلافة هذا القروي الجاهل كيف يتجرأ على الوقوف في الصف الاول ناجى نفسه بهذه الكلمات فاعترض عليه عقله بالقول: ولكن كانت ثمة فرجة واضحة في الصف الاول وينبغي ان يسدها احد المصلين فجزى الله هذا القروي خيراً ان بادر لهذا العمل الصالح من بين من تخلف عنه من سائر المصلين لم يذعن صاحبنا لمنطق عقله ورد عليه بالقول: ولكن المتعارف ان الصف الاول هو لاهل الفضل والعلم والوجاهة من رواد المسجد فكيف يتجرأ هذا القروي الجاهل باحتلال مكان فيه وظل يرمق القروي بنظرات فيها الكثير من الامتعاض والسخط عليه لجرأته غير المحمودة.
اقيمت الصلاة وكبر امام الجماعة لها واتبعه المصلون ومعهم ذاك القروي الغريب انشغل صاحبنا عن استشعار الحضور بين يدي الله جلت قدرته وهو يصلي له فقد كان يقتدي ببدنه فقط اما قلبه فقد كان منشغلاً بمراقبة هذا القروي الجريء يلاحقه بنظراته باهتمام ما وجد للنظر اليه سبيلاً.
اعجبه ما شاهده منه فور بدء الصلاة لقد لاحظ فيه انقطاعاً عما حوله واقبالاً على ربه، يصلي له بخشوع راسخ، فخفف مارآى من غلوائه وسخطه عليه لما رآى منه اولاً!
لكن هذا الارتياح والاعجاب لم يدم طويلاً فسرعان ماتحول الى سخط عارم وامتعاض اشد من الاول فما الذي جرى لينقلب حال صاحبنا بهذه السرعة.
ما آثار الغضب في صاحبنا للمرة الثانية وبدرجة اشد من سابقتها هو ما شاهده من القروي الغريب في الركعة الثانية من الصلاة وبالتحديد عند قنوتها!
عند قنوتها ظهر ان القروي بدل نيته في الصلاة من الجماعة الى صلاة الفرادى واتم صلاته منفرداً ثم جلس وفتح منديلاً كان معه وفيه قطع صغيرة من الخبز وشرع بالأكل! وكان من الطبيعي ان يثير تصرفه الاخير استغراب بل واعتراض المصلين حتى الذين لم يثرهم تصرفه الأول.
التف المصلون حول الرجل القروي وعلائم الامتعاض والاستغراب تعلو سيماهم وتدفق عليه منهم سيل الاسئلة الاستنكارية، لماذا فعلت هذا يا رجل سأل احدهم وتابعه الثاني مستفهماً لماذا لم تحفظ المسجد والصف الاول وامام المسجد؟
وتتابع شريط الاسئلة والرجل صامت لا يجيب بشيء وصاحبنا ايضاً صامت يرقبه حتى آثار الضجيج امام المسجد فسأل ما الخبر فاجابه صاحبنا: عذراً يا سيدي لقد ابتلينا اليوم بهذا القروي الجاهل تقدم الى الصف الاول وصلى خلفك مقتدياً بك ثم غيّر نيته الى الفرادى في وسط الصلاة ثم جلس ليأكل وهو يلتزم الصمت تجاه اعتراض المصلين لا ينبغي لمثله ان يدخل المسجد اصلاً، رد امام المسجد على غضب صاحبنا بعبارات هادئة قال له: لا تعجل يا ولدي فلعل له عذراً في كل ما فعل لاسأله انا لعله يجيب سؤالي، توجه امام المسجد نحو القروي وسأله بهدوء لماذا فعلت مافعلت يا ولدي اجابه القروي وعن أي فعالي تسأل عن اولها لماذا عبرت الصفوف الى الصف الاول ووقفت للصلاة فيه؟
سأل امام المسجد فاجابه القروي بثقة: انما فعلت ذلك لاقيم سنة محمدية وامحو بدعة ترسخت في قلوب البعض وجعلتهم يؤمنون بنمط مذموم من التمييز الطبقي، فتوهموا ان الصف الاول حكر على ذوي الوجاهة والفضل والله اراد صلاة الجماعة موقفاً كريماً يتجلى فيه خضوع الجميع لله تعالى وهم سواسية.
اصبت يا ولدي فجزاك الله خيراً ولكن لماذا انفردت في وسط الصلاة عن الجماعة سأل امام المسجد الرجل القروي فأجاب بما لم يكن يتوقعه احد قال: هل ترغب في ان اسر لك بالسبب وحدك فانا راغب في ان لا يسمع به غيرك، لم يستجب امام المسجد لرغبة القروي وطلب منه ان يخبر الجميع بالسبب فاذعن لطلبه وقال: دخلت المسجد للفوز بفيض الجماعة معكم وفي وسط تلاوتك لسورة الحمد علمت ان قلبك انصرف عن الصلاة واخذت تفكر في تقدم سنك واحتياجك الى حمار ينقلك الى المسجد ويرجعك الى المنزل، ثم سرح ذهنك الى السوق واخترت الحمار المناسب واستمر طائر الخيال يشغلك عن صلاتك بالتفكير في انتخاب مكان للدابة وعلفها فلم اطق الاستمرار في الاقتداء بك فاتممت صلاتي منفرداً.
جمع القروي منديله وهو يتحدث بكلماته الاخيرة وغادر المسجد سريعاً وقد غرق امام المسجد في صمته وهو مطأطئ رأسه ثم رفع رأسه فلم ير الرجل فصرخ بمن حوله ان هذا الرجل من الاولياء فأني بامس الحاجة اليه خرج المصلون ومعهم صاحبنا يبحثون عن الرجل القروي المجهول فلم يعثروا له على اثر وعادوا الى المسجد ليستقبلهم امامه بالقول: لم تعثروا عليه اليس كذلك انه من اولياء الله وقد جاء لينبهني ان امام الجماعة امينهم على صلاتهم فلا ينبغي ان يغفله عن حضور قلبه فيها شيء ولكن صاحبنا كان قد تلق درساً آخر غير هذا لا يقل عنه اهمية لقد عرف عيانا ان الله اخفى اولياءه بين عباده فلا ينبغي الاستهانة باحد من العباد فقد يكون ولياً لله!
لقد بحث صاحبنا طويلاً عن هذا الرجل القروي وطاف في القرى المجاورة سائلاً عنه دون جدوى فلم يعثر له على اثر ولم يره بعدها ابداً ولكن هل نساه كلا لم يغب عن ذاكرته ابداً كما لم يغب عن قلبه الدرس الذي تلقاه منه.
*******