أهلا بكم في هذا اللقاء وحكايتين فيهما هدايات بليغة بشأن حسن الثقة بالله وجميل صنعه وحسن تدبير لشؤون عباده في السراء والضراء.
نبدأ بالحكاية الأولي وهي مروية في كتاب مسكن الفؤاد: للشهيد الثاني رفع الله درجته قال: أسند أبو العباس ابن مسروق عن الأوزاعي قال: حدثنا بعض الحكماء قال: خرجت وأنا أريد الرباط أي المرابطة في ثغور المسلمين لحمايتها جهاداً في سبيل الله، قال حتي إذا كنت بعريش مصر، إذا أنا بمظلة وفيها رجل قد ذهبت عيناه، واسترسلت يداه ورجلاه، وهو يقول: «لك الحمد سيدي ومولاي، اللهم إني أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك كفضلك علي سائر خلقك، إذ فضلتني علي كثير ممن خلقت تفضيلاً». فدنوت منه وسلمت عليه، فرد علي السلام فقلت له: رحمك الله إني أسئلك عن شيء أتخبرني به أم لا؟
فقال: إن كان عندي منه علم أخبرتك به.
فقلت: رحمك الله علي أي فضيلة من فضائل الله تشكره وقد إبتلاك بما أري؟
فقال: أو ليس تري ما قد صنع بي.
فقلت: بلي.
فقال: والله لو أن الله تبارك وتعالي صب علي ناراً تحرقني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فخسفت بي، ما ازددت فيه سبحانه إلا حبا، ولا ازددت له إلا شكراً.
نتابع نقل حكاية هذا الرجل المبتلي والصابر الشاكر، قال راويها أن الرجل قال له: إن لي اليك حاجة تقضيها لي؟
فقلت: نعم.
قل: ما تشاء.
فقال: إن ابناً لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي ويطعمني عند إفطاري، وقد فقدته منذ أمس، فانظر هل تجده لي؟
قال الراوي: فقلت في نفسي إن في قضاء حاجته لقربة إلي الله عزوجل. فقمت وخرجت في طلبه حتي إذا صرت بين كثبان الرمال إذا أنا بسبع قد افترس الغلام، فقلت: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ كيف اتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه؟!
فكر الرجل بهذه المشكلة حتي هداه الله الي طريقة لأخبار الأب بالمصاب، قال: فأتيته وسلمت عليه فرد علي السلام فقلت: يرحمك الله إن سألتك عن شيء تخبرني به؟
فقال: كان عندي منه علم أخبرتك به.
قلت: إنك أكرم علي الله عزوجل وأقرب منزلة أو نبي الله أيوب صلوات الله وسلامه عليه؟
فقال: بل أيوب أكرم علي الله تعالي مني وأعظم عند الله منزلة مني، فقلت إنه ابتلاه الله تعالي فصبر حتي استوحش منه من كان يأنس به، واعلم أن ابنك الذي أخبرتني به وسألتني أن أطلبه لك افترسه السبع، فأعظم الله أجرك فيه.
أجاب الرجل: الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا.
ثم كان أن حل أجل هذا الرجل الصابر ومات قبل أن يرحل عنه راوي القصة، قال الراوي: ثم حركته فإذا هو ميت فقلت: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، كيف أعمل في أمره؟ ومن يعينني علي غسله وكفنه وحفر قبره ودفنه؟ فبينما أنا كذلك إذا أنا بركب يريدون الرباط، فأشرت إليهم، فأقبلوا نحوي حتي وقفوا علي فقالوا ما أنت؟ وماهذا؟ فأخبرتهم بقصتي، فعقلوا رواحلهم، و أعانوني حتي غسلناه بماء البحر، وكفناه بأثواب كانت معهم، وتقدمت فصليت عليه مع الجماعة ودفناه في مظلته، وجلست عند قبره آنسا به أقرء القرآن إلي أن مضي من الليل ساعة. فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة وأجمل زي، في روضة خضراء عليه ثياب خضر، قائما يتلو القرآن، فقلت له: ألست بصاحبي؟
قال: بلي.
قلت: فما الذي صيرك إلي ما أري؟
فقال: اعلم أنني وردت مع الصابرين لله عزوجل في درجة لم ينالوها إلا بالصبر علي البلاء، والشكر عند الرخاء، فانتبهت من منامي.
أما الحكاية الثانية فهي قصيرة تحمل عبرةً عظيمة رواها القاضي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة، قال:
أخبرني الصولي قال: حدثنا البر القاضي قال: رأيت امرأة بالبادية وقد جاء البرد فذهب بزرع لها فجاء الناس يعزونها، فرفعت رأسها الي السماء وقالت: «اللهم أنت المأمول لأحسن الخلف، وبيدك العوض عما تلف، فافعل ما أنت أهله، فان أرزاقنا عليك، وآمالنا منصرفة إليك».
قال: فلم أبرح حتي مر رجل من الاجلاء فحدث بما كان لها فوهب لها خمسمائة دينار.