قال لي يوماً وعيناه تموجان في بحر من الآهات طالما تأملت في هذا الحديث وسائلت نفسي هل الحياة خير لي ام الممات؟ قال ذلك عندما قرأت له حديثناً مروياً عن الامام الصادق عليه السلام بل ما قرأت له الا اول الحديث فاكمله هو بصوت حزين اذ كان قد حفظه من قبل قرأت اول الحديث من استوى يوماه فهو مغبون فبادر مردداً بقية نصه: ومن كان آخر يومه خيرهما فهو مغبوط، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو الى النقصان، وتوقف رغم ان للحديث بقية اكملتها له مسترسلاً مع علمي بانه يحفظها ومن كان الى النقصان فالموت خير له من الحياة، وعندها سائلني بلهجة مشوبة بالكثير من الالم، كم منا من الموت خير له من الحياة طبق هذه المعادلة الصادقية؟.
لا اخفي عليكم ان سؤاله هزني بكل كياني لم اجبه فتابع يقول والحزن جاثم على نبراته كما من لا يكون يومه شراً من امسه؟ ومن منا من يرى الزيادة في نفسه باستمرار لكي لا يكون سائراً الى النقصان فيكون الموت خيراً من الحياة؟
كانت تساؤلاته تحمل شعوراً عميقاً بمسؤولية التكريم الالهي للانسان على سائر خلائقه فهي تتحرك في دائرة هذه المسؤولية كما هو حال هذا الحديث الصادقي الشريف، قلت له: كم اغبطك على هذا الشعور الصادق بانسانيتك ان هذا الشعور بحد ذاته دليل على حياة قلبك وهذه نعمة حرم الكثيرون منها انفسهم.
كنت ارجو ان يبعد هذا القول عن صاحبي نبرة الحزن التي خيمت عليه لكنه واجهني بجواب افصح عن اني لم انجح في تحقيق ما رجوت فقال لي: وما جدوى هذا الشعور بمسؤولية الانسان كأنسان اذا لم يتجسد عملياً في حركة دؤوبة نحو الاستزادة من الصالحات والاخلاق الفاضلة اليس صادق اهل البيت عليهم السلام قد قال: المغبون من غبن عمره ساعة بعد ساعة؟
اراد من قوله هذا ان ينبهني الى ان الكثيرين منا تنقضي ساعات اعمارهم متتالية دون ان يستفيدوا منها في الاستزادة من الخيرات المعنوية والعمل بمقتضيات ما انعم الله تبارك وتعالى على الانسان من فتح آفاق غير محدودة لطي مراتب الرقي المعنوي واعمار الحياة الاخرى بالباقيات الصالحة، قلت له: صحيح ما تقول ولكن هذا الشعور نفسه مؤشر ايجابي يفتقده الكثيرون فهو يجعل الانسان مستعداً لتقريب نفسه عن صورة الانسان الكامل التي اراده الله ان يتحرك نحوها وباستمرار فالكثير منا اسرته مشاغل الحياة ففقد هذا الشعور وقنع باداء الحد الادنى من الفرائض بصورة او باخرى غافلاً عن الوقوع في الكثير من المعاصي الصغيرة والكبيرة من حيث يدري او لا يدري، ولو كان هذا الشعور حياً فيهم لنبهم على الاقل الى ما يقومون به من اعمال روتينية كل يوم وخلصوها مما يخالف الشرع صغيرة وكبيرة.
فهم صاحبي ما اريد قوله فبادرني بالقول عند اول وقفة في حديثي ولكننا مطالبون باكثر من هذا ان الاسلام يفتح امامنا آفاقاً اوسع بكثير انه يريد منا ان نكون في حركة مستمرة نحو التكامل ونحو الاستزادة من الخيرات لا تشغلنا عنها مشاغل الحياة، بل علينا ان نكيف مشاغل الحياة نفسها لخدمة هذه الحركة التكاملية والا لن تكون الحياة خيراً لنا من الممات بل على العكس، لا يكفي ان نتعرف على المعاصي ونجتنبها ولا ان نتعرف على الواجبات فنؤديها بل ان مسؤولية الانسان كأنسان كرمه الله بنعمة فتح آفاق التكامل امامه ان يتطلع الى اكثر من هذا والا فلا خير في الحياة له.
كنت اصغي لكلامه وان اقلب بين يدي الكتاب الذي قرأت له منه حديث الامام الصادق عليه السلام المتقدم فجمدت عيناي عند حديث آخر له عليه السلام فقاطعت حديثه دونما قصد لاقول له: اجل نحن مطالبون بأكثر من هذا ولكن اسمع هذا الحديث الاخر المروي عن الامام الصادق عليه السلام ايضاً فلا اظنك سمعته من قبل يقول لا خير في الدنيا الا لرجلين رجل يزداد في كل يوم احساناً ورجل يتدارك ذنبه بالتوبة، وانى له بالتوبة والله لو سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله منه الا بولايتنا اهل البيت.
تعمدت ان اتلو عليه الحديث بتأني فقرة فقرة وهو يصغي اليه بكل وجدانه وقد بدأت سحائب الوجد تنقشع عن عينيه فتابعت القول بعد ان انهيت تلاوة الحديث الشريف.
اجل نحن مطالبون باستمرار اكثر مما نحن عليه ولكن لا ينبغي للهفوات ان تصدنا عن النهوض كلما سقطنا في تخلف الشعور بسعة آفاق التكامل الانساني ينبغي ان تكون حافزاً للنهوض عن كل سقطة يتعرف على سبل الخير وآفاق التكامل ويسعى لها بوقود التوبة مستعيناً بهدي اهل البيت النبوي دونما يأس يغريه به طول الطريق وبعد المسافة، ففي هديهم عليهم صلوات الله كل ما يحتاجه للوصول الى ما يطمح اليه ولذلك انما يقبل الله التوبة بولايتهم لانها ولاية هدى تجعل التوبة نصوحاً.
اخذ مني الكتاب المفتوح على يدي وحدق ببصره الى الحديث الذي تلوته عليه وقبل كلماته ونهض والكتاب معه يكرر قراءة الحديث ليحفظه وعيناه متوقدتان بنور فيه من الأمل والرجاء الصادق الشيء الكثير.
*******