كان الاقلون من معارفه يغبطون على ما حباه الله تبارك وتعالى به من قناعة انقذته من كثرة الانشغال بطلب الدنيا واغنته عن مد عينيه الى ما في ايدي الناس وجعلت اياديه كريمة في انفاق الحق المعلوم للسائل والمحروم كانت ثروته ضئيلة بحساب الاعداد مباركة في وفرة مدخراتها الاخروية ليوم الحساب.
قناعته وفرت مساعيه المشكورة لخدمة عباد الله ووجهت مشاريعه الاعمارية لاعمار الدار الآخرة باندفاع محمود لا يطلب من الناس جزاءً ولا شكوراً، ولذلك كان الاقلون من معارفه الاقربين يغبطونه على هذه النعمة الالهية الجليلة ويدعون له بمزيد التوفيق في شكرها.
اما الاكثرون من معارفه فقد كانوا يأسفون لحاله، كانوا يقولون ان شاباً بمثل كفاءاته وقدراته وذكائه قادر على بناء منزل افضل من منزله وامتلاك سيارة ارفه مما لديه والحصول على ثروة اضخم ممالديه لو امسك يديه عن الانفاق قليلاً، وتفرغ للمشاريع التجارية وتنمية ثروته، كانوا يدعونه لذلك فيجيب ببسمات تفصح عن ان همه اكبر مما يدعون اليه.
بعد مدة انقلبت المعادلة، وكانت المفاجأة صار الاكثرون من معارفه يحسدونه على ما آل اليه حاله صاروا يحسدونه رغم انهم كانوا يدعونه الى هذا الحال وصاروا يتمنون ان يكون لهم ما اصبح لديه من ثروة متراكمة ومنزل ضخم وسيارة فارهة ومشاريع تجارية متدفقة يصعب حصرها.
ولكن صار الاقلون من محبيه يأسفون لما آل اليه حاله وزاد ايمانهم بعظمة النعمة الالهية الجليلة التي فقدها صاحبهم فتغير حاله الى هذا الحال.
ترى ما الذي جرى لهذا الشاب الكفوء وما هو الحال الذي تغير اليه فاثار اسف احبائه؟ اجل لقد ورث صاحبنا شركة تجارية كبيرة وهبها اليه في وصيته تاجر ثري توسم فيه خيراً بعدما رأى تفانيه في خدمة عباد الله، وكان امله ان تصرف عائدات هذه الشركة في هذا السبيل لتكون له صدقة جارية، لكنه لم يخبر صاحبنا بشيء عن هذه الامنية لانه كان واثقاً من انه سيفعل ذلك من تلقاء نفسه وتوفي التاجر وجاءت هذه التركة للشاب غير مقيدة باي شرط.
لا ريب ان الامر بهذا الحدود لا يثير الاسف لدى محبي هذا الشاب النشط، فما اثار اسفهم هو ما جرى بعد ذلك، بعد مدة من ادارة هذه الشركة التجارية الموروثة وبكفاءة عالية انست الارقام الكبيرة لعائداتها نشاطاته الخيرية السابقة وبعثت فيه حالة جديدة من السعي لمضاعفة هذه الارقام بجهوده وباستمرار واندفاع محموم سلبه تلك النعمة الجليلة التي كان يعمر بها داره الحقيقية، وشغله حتى عن الذهاب الى المسجد الذي كان يحرص على الحضور فيه للصلاة، واغفله الانشغال بهذه الصفقة او تلك حتى عن عيادة المرضى من ارحامه بعدما كان يتفقد احوال الاصحاء منهم باستمرار، ونسي حتى ذلك المقدار اليسير من الحق المعلوم الذي كان يخصصه من عائداته المتواضعة سابقاً للسائل المحروم.
وهذه الحالة الجديدة هي التي اثارت اسف الاقلين من احبائه وحسد الاكثرين من معارفه.
زاره يوماً احد ارحامه القريبين، ليطلب منه ان يقرضه مبلغاً من المال يستعين به على معالجة ابن له قرر الاطباء اجراء عملية جراحية عاجلة له في رأسه بعد اصابته بداء السحايا قال الاب مستعطفاً قريبه: ساسعى لرد المبلغ في اول فرصة تسنح لي فقرار الاطباء فاجئني ولم يمهلني فرصة مناسبة لتوفير تكاليف العملية لقد عرضت للبيع حاجيات المنزل ولكني لم اجد بعد من يشتريها.
قفز الى ذهن الشاب وهو يستمع لهذه الكلمات امر الصفقة المهمة التي من المقرر ان يعقدها في اليوم نفسه، لقد خصص لها كل رصيده المالي فنسبة ارباحها عالية مغرية لم يستطع مقاومتها، وعجز عن تطويع نفسه للقبول بالتنازل عن قسم من اموال الصفقة المرتقبة لتلبية طلب هذا الاب المهموم.
ارتسمت في ذهنه صورة وجه ذاك الاب المهموم التي علاها اليأس وهو يغادر مكتبه بعد ان يأس من الاستجابة لطلبه، وكان الذي اعاد هذه الصورة لذهنه الخبر الذي حمله اليه مدير مكتبه الذي كلفه بمتابعة امر تلك الصفقة لقد فاجأه قوله: لقد اتضح ان التاجر الذي عقدنا معه نصاب شرور، لقد ذهبت الى مقر شركته فلم اجد احداً فالشركة وهمية وصاحبها محتال، وذهبت الى المصرف فوجدت حسابه مغلق!!.
كانت هذه الصاعقة رحمة ايقظته من سباته العميق وبعد قليل من التفكر الذي هو خير من عبادة سنة طلب من مدير مكتبه ان يتصل بصاحب معرض للسيارات ليحضر ثمناً شراء لسيارته الفارهة! استلم الثمن ليذهب بسيارة اجرة الى ذلك الاب المهموم لينقلا معاً الابن المريض الى المستشفى لاجراء العملية الجراحية بعد ان تهيأت تكاليفها.
وفيما كان الشاب يعين الاب الذي ازال الله تعالى همه على شراء ما يحتاجه بعد العملية كان مدير مكتبه يبحث عن رئيسه ليخبره بان الشرطة قد قبضت على النصاب المحتال في المطار قبل هروبه، وان عليه ان يراجع مركز الشرطة لاسترداد امواله ولكنه لم يكن يعلم ان رئيسه لن يكون هذه المرة من الفرحين ولن يرى فيها اموالاً له!!
*******