كنت في الحدود الطويلة اصب كثائر الناس او كواظمهم، امسك عن الاكل والشرب وسائر المشهور من المفطرات لكني لم اكن اعلم اني لست من الصائمين، قال هذا لصاحبه والمرارة تطفو على كلماته وتثير في صاحبه الاسى والشفقة، اراد صاحبه ان يسليه عما يحس به من الم ومرارة لكن الرجل قاطعه بالقول: لم اقصد مما قلت طبعاً مواساتك لي، صحيح اني نادم على ما ضيعت من عمري في صوم غير الصائمين ولكن ما قلته مقدمة لأحدثك عن نعمة ساقها لي ربي فإذا عرفت كنه ما قلت ادركت عظمة هذه النعمة.
كان من الطبيعي ان تثير هذه الكلمات المزيد من الرغبة في التعرف على هذه النعمة فسأله صاحبه: وما تلك النعمة؟
كان ينتظر هذا السؤال فأجابه بلهجة ملئها الرضى هذه المرة وليس المرارة وقال: الحمد لله بالامس احسست وللمرة الاولى لذة الصوم وشعرت انني قد التحقت بالصائمين.
كان جواب هذا لصاحبه مفتاح سؤال آخر او اكثر طرحه صاحبه عليه قال له: مالذي جعلك تشعر اولاً انك لست من الصائمين ثم مالذي جعلك تعرف بأنك التحقت بركبهم وكيف احسست بلذة الصوم؟
قطع الرجل على صاحبه سيل اسئلته ليقول وابتسامة وديعة تعلو شفتيه: صبراً يا اخي لأجيبك على اسئلتك تباعاً والا خانتني الذاكرة ونسيت شطرها.
حسناً اجبني اولاً عن اول الاسئلة، كيف عرفت انك لست من الصائمين؟ ان لذلك قصة من قصص الحياة ايها الصديق، لقد عرفني بذلك احد الصائمين حقاً، انه زميلي في الدائرة، الحاج حسن، كان التعب قد استولى علي في ضحى يوم رمضاني قضيت كامل ليلته في المجالس الرمضانية، لم استطع القيام بشيء من اعمالي فقد غلبني النعاس وساقني الى نوم عميق على الكرسي خلف طاولة عملي التي تناثرت عليها الملفات وقد تأخر اوان دراستها، عندما انتبهت من نومي فاجئني منظر الطاولة فقد رأيتها هذه المرة مرتبة بالكامل وعلى احسن حال.
تفجر في بدلاً من الارتياح والرضى والامتنان اتجاه من رتبها غضب عارم وانت تعلم كم انا شديد في انفعالي، لا ادري لماذا احسست بأن الحاج حسن اراد بفعله هذا تأديبي وليس تقديم خدمة لي، ان الغضب يعني عن الحق حقه، لم اتمالك نفسي وانتفخت اصرخ في الحاج حسن وهو كان يتابع عمله بهدوء، كم انا نادم على الكلمات الجارحة التي صببتها عليه صباً، قلت له فيما قلت: انك تتعمد اهانتي، تريد ان تشعرني بأنك افضل مني لكن مثل هذه الامور لا تصدر إلا عن ضعاف النفوس، وتابعت اطلاق مثل هذه الكلمات والحاج مطرق بوجهه على الملفات يتابع عمله بهدوء دون ان يرد علي بشيء حتى تعبت من الصراخ ولذت بالسكون فقال: ليس الامر مثلما تتصور يا اخي لقد وجدتك متعباً فأحببت ان اعينك بعض الشيء، كنت اتوقع ان يرد على كلماتي الجارحة بمثلها او ببعضها لكنه لم يفعل واكتفى بهذه الكلمات القليلة وتابع عمله بصمت حتى انتهى وقت الدوام الرسمي فقام مودعاً وذهب دون ان اجيبه.
سيطر علي الذهول مما جرى، اردت ان اقوم بالمتأخر من عملي بعد ان سكن غضبي رفعت الملفات التي امامي فهالني ما رأيت لقد كان الحاج اكمل العمل فيها ولو كان يريد تأديبي او اهانتي لأكتفى بترتيب الملفات ولن يقوم بأنجاز العمل فيها، قلت ذلك في نفسي وتملكني الندم على اساءة الظن به وما صدر عني اتجاهه واستمر الندم يتفاعل في قلبي.
عندما ذهبت في اليوم التالي الى محل عملي كان الاضطراب مستحوذاً علي فأنا مردد بين رغبة احسها في داخلي والاعتذار من صاحبي وبين كبر مزمن في نفسي كان يوسوس لي، كيف تعتذر منه؟ اعرض عن الامر كله، انك لم تعتذر من احد الى اليوم، لا تذل نفسك، قطع حبل هذا الحديث سلام الحاج حسن الذي اردف سلامه بالقول: اعتذر منك يا اخي على ما جرى بالامس، الله يشهد انني لم اقصد اهانتك، ان ما جرى مجرد سوء فهم.
شعرت بالصدق في كل كلمة من كلمات صاحبي ولم اكن بحاجة لسماع توضيحاته فقد علمت اني اولى بالاعتذار منه فقطعت كلامه سائلاً: لماذا لم ترد على كلماتي الجارحة بالامس وصبرت عليها وقد علمت انها ظلم لك واني اولى بها منك؟
اجابني الحاج بلهجة الصدق نفسها: لعل صدري كان سيطفح لو لم يكن ما وقع قد وقع في غير شهر رمضان ولم اكن صائماً، لقد صبرني الصوم على الاستجابة لرغبة نفس عارمة في الرد وقنعت ان غضبك مجرد سوء فهم وليس عن قصد ايقاع الظلم علي، استفسر الحاج حسن في توضيحاته الودود، قمت اليه لأقبل رأسه معتذراً وعندها شعرت بلذة روحية ما عهدتها في نفسي ابداً كانت المرة الاولى التي اعتذر من انسان والمرة الاولى التي اشعر فيها بلذة هذا الصوم الذي جعلني اتغلب على ما في من كبر.
*******