بطل هذه القصة شاب توجّه لطلب المعرفة والتربية الالهية في أوساط القرن الهجري الرابع عشر، وكان محط رحاله في جوار مرقد امير المؤمنين (عليه السلام) وفي حوزة عارف رباني جليل ممن تشد اليه الرحال وهو السيد علي القاضي ولكنّ إقامته في النجف الاشرف يومذاك كانت محفوفة بضائقة مالية شديدة تحملّها رغبة في جوار مولى الموحدين وفي درس العارف القاضي.
وقد عرفنا أن الفاقة بلغة بهذا الشاب يوماً حدّاً لم يبق عنده شيء سوى ما يكفيه لشراء رغيفين من الخبز هما كل طعامه في ذلك اليوم، لكنه عندما توجه الى درس استاذه إعترض طريقه رجل أضعفه الجوع طالب المعونة، فرق له وأعطاه قيمة أحد الرغيفين وهو في صراع حاد!
وفي درس استاذه القاضي دخل مسكين آخر يطلب المعونة، فاختار السيد القاضي تلميذه الشاب من بين الحاضرين ليطلب منه ما يقدّمه لهذا المسكين فأخرج الفتى ما تبقى لديه وأعطاه للسيد!
اشتد الجوع بالفتى بعد ان اتم تحضير دروسه راجع ما تلقاه في نهاره وطالع الفوائد التي دونها مما استمعه اليوم من تقريرات اساتذته والقى نظرة على موضوعات الدروس التي سيتلقاها في غده، جمع كتبه واوراقه ووضعها في زاوية من حجرته الصغيرة، استلقى على فراشه لينام عسى ان يذهب النوم بآلام جوعه، ولكن الجوع حرمه النوم ايضاً فهجمت عليه الخواطر والوساوس لتزيد من محنته، امعنت نفسه في عزله وتأنيبه على ما فعل عاتبته بشدة قائلة: ذق جزاء عملك بل ذق جزاء تهورك، الم اقل لك اني لا اطيق الجوع؟! فلماذا لم تصغ لنصيحتي وانا مشفقة عليك؟ ماذا ستفعل في الغد؟ ستضطر الى استعطاء الناس وبذل ماء وجهك لهم لكي تسد جوعك وتحفظني من الهلاك، هلا رجعت الى وطنك وتركت الحوزة التي لم تجد فيها غير الجوع وشظف العيش!
لم يستطع الفتى مقاومة هذا العتاب ولم يطق منع نفوذه الى قلبه ليترك فيه بعض آثاره ولكن اذى قلبه كان من ناحية غير هذا العتاب، كان القلق من الغد وما سيحمله له اشد ايلاماً قال بحسرة، احقاً سيضطرني الجوع غداً الى ان ابذل ماء وجهي واستعطي احداً ما اسد به جوعي؟ لا لا هذا ما لا اطيقه يا رب فلا تحملنيه! وهنا هتف به هاتف من اعماق قلبه: ان كنت لا تطيق الطلب من الناس فلماذا لا تطلب الفرج من رب الناس الذي لا يستحي احد من خلقه ان يطلب منه اطلب منه الفرج وان يغنيك عن الطلب من خلقه استشفع اليه بامير المؤمنين المكرم وهو حامي حماه!
توجه الفتى بقبه الى بارئه خير الرازقين مستشفعاً بمولى الموحدين تائباً من سوء ظنه برب العالمين الذي لا ينسى رزق احد من خلقه، نفذ الشعور بالندم الى اعماق قلبه خاطب نفسه: ويحك كيف اغريتني باساءة الظن بربي الى هذا الحد؟! كيف ادخلت في القلق من الغد وقد علمت ان الرزق بيد ربي ضمنه لخلقه الى حين الاجل الذي لا يستقدم ساعة ولا يتأخر؟! اسف الفتى على ما بدر منه تجاه ربه واستغفر فشعر بومضة من نور تتجلى في قلبه وتتسع فيه باضطراد فجال ذهنه مستذكراً ما سلف وما حضر من نعم الله الكريم عليه وعاد لنفسه يعاتبها بالقول: ويحك ما اشد ضعفك اتدعين جوع يوم واحد ينسيك كل تلك العنعم؟ ألم يمن ربي علي بصحة وسلامة في البدن وعفة عما في ايدي الناس؟ ألم يمن ربي علي بجوار امير المؤمنين الم يمن علي بالهداية الى الحق والنجاة من الظلال؟ ألم يمن ربي علي باب صالح وام زكية ارضعتني مع لبنها الطاهر حب اهل البيت عليهم السلام؟ ألم يمن ربي علي باستاذ رباني حكيم؟
وعند ذكر استاذه قفز الى ذهنه سؤال اغفله عنه قلقه الموهوم ذاك؟ فاي سؤال هو؟
في القسم الاخير من هذه القصة سنتعرف أولاً على هذا السؤال وعلى جوابه أيضاً وعلى عاقبة جوع هذا الفتى هو إستاذه القاضي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*******