والصلاة والسلام على محمد المصطفى وعلى آله الابرار وصحبه الأخيار ...
السلام عليكم ـ مستمعينا الافاضل ـ ورحمة الله وبركاته وأهلاً بكم في برنامجكم هذا نرجو ان تقضوا معه وقتاً طيباً ومفيداً..
مستمعينا الاعزاء ـ كان في النجف الاشرف رجل من الحجاز يدعى الشيخ علي الفرعي وكان نظيراً للعارف الشيخ علي مغنية(رض) في التقى والفضل ورفيقاً له في الدرس والبحث فقضيا شطراً من الدهر متلازمين جادين في تحصيل العلم مجاهدين في سبيله حتى بلغا منه الذروة العليا وقد اصابهما من الفقر والعوز ما يصيب اكثر العلماء والطلاب الذين هاجروا الى النجف الاشرف ودرسوا فيه في تلك السنين وكان اساتذة الحوزة العلمية اذا تذمر احد من الحاجة وشكا من الدين يطيبون نفسه بالحديث القدسي: جعلت العلم في الجوع والناس يطلبونه في الشبع. يقول العلامة المرحوم محمد جواد مغنية، كنا ذات يوم في حفل من الشيوخ والطلاب فدخلنا في فنون من الاحاديث فانجر الكلام الى النجف وما تحويه فقال المرحوم اخي الشيخ عبد الكريم: وماذا في النجف الاشرف غير المشايخ والفقر فاعترضه احد الظرفاء وقال: لا يا مولانا ليس هناك اثنان فالمشايخ هم الفقراء والفقر هو المشايخ، وكلما كان الانسان عريقاً في المشيخة متقوّماً في التحصيل والفضل كان نصيبه من العوز والفقر اكبر واوفر.
نعم ـ مستمعي الكريم ـ بلغت حاجة العالمين التقيين الشيخ علي الفرعي والشيخ علي مغنية مبلغهما من العلم والايمان وانسدت دونهما السبل وضاقت عليهما الارض بما رحبت وكان الشيخ الفرعي يرقب من ذويه وارحامه في الحجاز ان يرسلوا له نفقات السفر الى موطنه حيث انتهى من دراسته وحاز الشهادة الكبرى بالاجتهاد المطلق فتأخروا عليه فارسل اليهم يحثهم ويستنجدهم وصادف في هذا الحين الذي ينتظر فيه الشيخ الجواب من قومه وصول خمسين ليرة ذهباً الى العبد الصالح الشيخ علي مغنية من ذويه في جبل عامل بعثوا بها اليه لوفاء ديونه ونفقات سفره الى بلاده، ولما قبضها احب ان يؤثر بها صاحبه الحجازي ويقدمه على نفسه وولده ولم يخش الا شيئاً واحداً وهو ان يرفضها الشيخ علي الفرعي لعلمه بان صاحبها الشيخ مغنية احوج اليها منه. فرأى ان يحتال للامر فاخذ المال وذهب الى رفيقه وقال له على نحو التورية: بشراك فقد جاء الفرج وتيسر ما عسر من امرك الم تكن تنتظر المال يأتيك من الحجاز لقد قبضته لك وهذا هو خمسون ليرة ذهباً فطابت نفس الشيخ الفرعي وانشرح صدره ولم يلتفت الى التورية في كلام رفيقه فتسلم المال ويده ترتعش سروراً ووجهه يطفح بشراً فوفّى ديونه وقضى حوائجه وابتاع ادوات سفره وودع رفيقه عائداً الى بلاده يحدوه الشوق ويهزه الطرب اذ ترك النجف موفور الكرامة عالي الرأي ليس لدائن عليه حق ولا لغريم درهم، ولما وصل الشيخ الى الحجاز علم كل شيء وفهم وجه الحيلة ومرماها، وبأي شيء يشكر هذه النعمة التي انقذته من التهلكة، لم ير خيراً من الاسراع بارجاع المال الى صاحبه مشفوعاً بكتاب يعترف فيه بالفضل والجميل وقبل ان يباشر بتهيئة المال تسلم كتاباً من صاحبه الشيخ مغنية يقول فيه بعد التهنئة بوصوله سالماً ايها الاخ الجليل ايَّاك ان تفكر في اعادة المال فانه من الله تعالى وفي سبيله ذهب، هو لك باجمعه لا اريد منك وفاءً ولا جزاء، ويضيف المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية قائلاً: وكأني بالشيخ وقد دمعت عيناه اكباراً لهذا الايثار الخالص والمفاداة النادرة، ماذا يصنع الشيخ الحجازي؟ بينما يرى نفسه عاجزاً عن شكر المنعم وهو يظن انه يقبل المال منه واذا به يضيف الى الاولى نعمة اجلَّ واعظم، ما يصنع وبأي شيء يكافيء الشيخ علي مغنية؟ ولم يكن المال من اهدافه ولا المادة من غاياته، ولا هو منها في شيء فقد تعالت نفسه عن العالم السفلي مقرَّب، فمن اراد مكافأة الشيخ علي فليعمل له في هذا السبيل سبيل الروح والقداسة لا سبيل المال والشهوات اذن وجد الشيخ الفرعي الطريق الذي يمكن ان يؤدي به بعض ما عليه من حق فآلى على نفسه ان يحج الى بيت الله تعالى عن الشيخ علي مغنية في كل عام ما دام حياً، ووفى بعهده وبقي مثابراً على ذلك حتى وافته المنية "رضوان الله تعالى عليهما وعلى جميع الصالحين".
اجل مستمعي الكرام ـ قد يفعل الانسان الخير رغبة في مرضاة الله تعالى وهي غاية سامية ـ وطمعاً في السعادة بعد هذه الحياة وفراراً من العقاب والعذاب، وقد يفعل الخير لانه مفطور على الخير فيصدر عنه من تلقاء نفسه لانه وببركة التخلق باخلاق الاولياء جعل الحاكم في نفسه نوازع الفطرة السليمة وهكذا كان الشيخ علي مغنية وامثاله من علماء مدرسة اهل البيت(ع).
رجل منقطع النظير عن ارحامه واهله، منقطع عن موارده وبلده لا يملك من دنياه شيئاً سوى خمسين ليرة ذهباً تعادل يومذاك الفاً او تزيد، هو احوج اليها ممن كان ويكون يؤثر بها رجلاً لن يراه بعد اليوم وليس له فيه ولا في قومه أي غاية او مأرب فهنيئاً له ولكل المؤمنين السائرين على نهج الاسلام الحنيف وحتى اللقاء القادم ـ ايها الاعزاء ـ نشكركم على حسن المتابعة وجميل الاصغاء ... نستودعكم الباري تعالى والسلام عليكم.