لازالت الكلمات المدوية التي اطلقتها زينب ، تلهب رأسه ، كأسواط من نار ... تطبق على قلبه وتعتصره كقبضة هائلة مجهولة... تجثم على صدره وتخنقه ، مثل كتلة حجرية ضخمة ...
تلفت حوله كمن يبحث عما ينفّس غضبه ... عن شئ .. عن احد ينزل به انتقامه ..!
ليست كلمات تلك المرأة العجيبة وحدها ، هي التي اطارت صوابه ... بل ان ذلك الشاب الهادئ الصامت كاد يخرجه عن طوره ... كان طيلة الوقت صامتاً ، وكأنه قرر ان يستثيره بصمته..!
شخصيته الوقور تضفي عليه هيبة تكبره بعشرات السنين ...
نظراته النافذة يحس بها تخترقه ، تعرّيه ..!
أسماه ابوه علياً ، تخليداً لذكر ابيه – أول حامل لراية محمد – وله أخَوان قُتلا في كربلاء حملا الاسم نفسه ... ما معنى ذلك ؟!
هل أراد ان يقول ان راية محمد ستبقى تنتقل من يد علي الى علي آخر !!
... لا ... لا ... لن يبقى الامر على ما هو عليه ... لابد ان يسبر تينيك العينين العميقتي الغور .... سيدفع به غداً الى المسجد ... وسيأمر الخطيب لينال من جده وابيه امام جموع المصلين ... فما عساه يفعل ؟
انفرجت اسارير خليفة معاوية ، وأراد ان يطلق ضحكة رنّانه ... لكن وجهه سرعان ما غزاه الوجوم ... وتساءل بصوت مسموع ، هذه المرة :
- .... وماذا لو تكلم ...؟! ... فما عساه يقول ؟! ......... تقلب في فراشه عدة مرات ، قبل ان يجلس وهو يصرخ :
- كلا ... لن اسمح له ..!!
غص المسجد الجامع في دمشق بالناس ... فيما لازال الكثير يتوافدون عليه ...
الغالبية العظمى من الحضور ، دفعهم الفضول للمجئ ... حملهم الهمس الذي بدأ يدور في كل مكان ، للبحث عن حقيقة هؤلاء الاسرى الذين جئ بهم من العراق ... فرجال الحكومة والمحسوبون عليها ، يقولون انهم خوارج ... فيما ان ظاهرهم ، وما عليهم من سيماء الدين ومخائل الشرف تكذب ذلك ... هذا فضلاً عما يتناقله البعض ، من انهم من الحجاز ، بل ومن الذرية الطاهرة للنبي (ص).
نهض خطيب المسجد ، ليرتقي المنبر بوقار مصطنع ... ثم ... وبعد ان اخذ مكانه ، بدأ خطبته التي حفظها عن ظهرقلب ... واكثر من كل مرة ، بالغ في الوقيعة بعلي والحسين ( عليهما السلام ) ، ثم راح يثني على معاوية ويزيد ، ويطنب في تقريضهما .... !
و فجأة دوى صوت مزلزل يقول بنبرة منذرة :
- ويلك ايها الخطيب ..!! ... اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق ، فتبؤ مقعدك من النار .. !!
توجهت الانظار بإنبهار الى المتكلم ، فيما اضطرب يزيد في مجلسه ، دون ان ينبس بكلمة ..!
تحولت العينان ذوا النظرات النافذة من الخطيب الى يزيد ، وقال صاحبهما :
- يا يزيد ..! .. اتأذن لي في ان اصعد هذه الاعواد ، فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين اجر وثواب ...
تجهمت ملامح يزيد وهو يقول بارتباك لم يستطع اخفاءه :
- لا... لا ..!
دنى منه احد مقربيه ، وقال :
- يا امير المؤمنين ..! ، إئذن له ليصعد ، فعلّنا نسمع منه شيئاً ..!
التفت يزيد الى محدثه ، وهمس له بحنق :
- ان صعد المنبر هذا ، لم ينزل الا بفضيحتي ، وفضيحة آل ابي سفيان ... ! ... فردّ عليه :
- و ما قدر ما يحسن هذا ؟ ...... اجاب يزيد بنبرة مشحونة بحقد قديم :
- انه من اهل بيت ، قد زقوا العلم زقاً .. !! .... وتصاعدت الصيحات من اطراف المسجد :
- دعوه يصعد ...! دعوه يصعد ... ! ..... تلقى يزيد شارة خاصة من كبير مستشاريه ..... فقال كالمغلوب على امره :
- ليصعد ... !
وفيما بدأ الشاب يصعد المنبر بخطوات وئيدة ، تطاولت الاعناق تنظر اليه اعجاباً بجرأته ... !
و ما اِن استوى جالساً ، حتى شمل الجلوس بنظرة موحية ، قبل ان ينطق بحمد الله والثناء عليه ... ثم يقول :
- ايها الناس ..! ... اُعطيناً ستاً وفضلنا بسبع ... : اُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين ...
و فضلنا : بان منا النبي المختار محمداً ( صلى الله عليه وآله ) ، ومنّا الصديق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيدة نساء العالمين ، فاطمة البتول ، ومنّا سبطي هذه الامة وسيدي شباب اهل الجنة ...
فمن عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي:
أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء... أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى... أنا ابن من دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن محمد المصطفى...
أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا له إله إلا الله... أنا ابن من بايع البيعتين وصلى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين... أبي السبطين، الحسن والحسين علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن بضعة الرسول...
زفرات وشهقات مكتومة رددها المسجد، قبل أن تتصاعد الى موجة بكاء ضجت به جنباته..!
أصاب يزيد وأزلامه الإرتباك، فأرسل إشارة الى المؤذن الذي تلقاها سريعاً ليصدح صوته بالأذان:
- الله أكبر، الله أكبر... أطرق الشاب معلقاً بخشوع:
- كبرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، ولا شيء أكبر من الله...!
- أشهد أن لا إله إلا الله..... انبرى الشاب معلقاً أيضاً:
- شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخي وعظمي...!
- أشهد أن محمداً رسول الله.... التفت الشاب نحو يزيد وقال:
- يا يزيد..! محمد هذا، جدي أم جدك؟ فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت.. وإن قلت أنه جدي، فلم قتلت عترته؟!
لم يحر يزيد جواباً ولم يجد مهرباً إلا أن يشرع الصلاة، عله ينجو من الفضيحة التي توقعها..!
ما كان يزيد يحسب أن للكلمات حداً مرهفاً قاطعاً كالسيف...! كان يخشى أن تسيء الى سمعته... لا أن يكون لها كل هذا الفعل...!
بيد أنه وما أن رأى الرجال الذين استمعوا لكلمة علي بن الحسين في المسجد، تقدح عيونهم بالغضب ؛ حتى عرف ان النقمة بدأت تحاصره...! قبل أن يتيقن – فيما بعد – انها اقتحمت عليه بيته..!
فحيث آوى الى فراشه ليلاً باغتته زوجه صارخة:
- يزيد...! أرأس ابن فاطمة بنت رسول الله في بيتنا؟!
تظاهر بالتنصل مما حصل، وهو يقول:
- أجل يا هند...! لقد عجل عليه ابن زياد..!
شعر يزيد بالخطر يدهمه في آمن مكان كان يظنه... فراح يعمل فكره من أجل تهدئة الأمور...
فأمر بإخلاء دار خاصة لإسكان آل النبي... ورفع أي قيود على تحركهم... والسماح لهم باقامة مراسم العزاء ، واستقبال المعزين...
لكن كل تلك الإجراءات لم تشعره بالأمن... ذلك أنه راح يرى أن بقاءهم بقربه، أمسى خطراً محدقاً، متوجسا من احتمال التفاف الناس حولهم...!
وهكذا، سارع الى إصدار أوامره بإعادتهم الى المدينة المنورة.
في طريق العودة ...كانت ناقتها تسير بها وسط القافلة... وذهنها مثقل بالتفكير... إلا أنها ورغم الآلام والأحزان، كانت تستشعر الطمأنينة والسكينة...
وقلبها يحدثها أن المهمة الرسالية الثقيلة التي نهضت بها هذه الأسرة، قد نجحت في إيصال رسالة الثورة... وإفشال المخطط المعادي في تشويه مسيرتها وأهدافها...!
واستعادت زينب عبارة أخيها الشهيد لمن أراد أن يثنيه عن اصطحاب أسرته الى كربلاء : "شاء الله أن يراهنّ سبايا"... إستعادت ذلك ثم اغرورقت عيناها بالدموع...!