مع صوت المسحاة وهو يركلها في أحشاء التربة... تسرب الى أذنيه صوت مفعم بالخشوع والألم:
"اللهم إني أشكو إليك غربتي وكربتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين.." تطلع حواليه... رمى ببصره الى خارج البستان... لم ير شيئاً... عاد يمسح ببصره البستان... لا أحد غير سيديه عتبة وشيبة.... ظل مشدوداً الى مصدر الصوت، إلا ان صوتاً قريباً طرق سمعه هذه المرة... عرف فيه صوت شيبة...
- يا عداس.. يا عداس..! ...ركز المسحاة في الأرض وتقدم من سيده... أشار شيبة باتجاه شجرة عنب أقصى البستان، وقال:
- خذ قطفين من العنب، وقدحاً من الماء، واذهب بها الى ذلك الرجل الجالس في ظل تلك الحَبَلة.
أسرع عداس وقد غلبت عليه الرغبة باستكشاف سر الرجل... فحمل العنب والماء ليضعهما بين يديه...
وفوجئ بما رأى... لقد كان وجه الرجل يشع ببريق أخاذ... نظراته النافذة.. ملامحه المكسوة بالهيبة والوقار... تنبأ عن شخصية إستثنائية لم تقع عينا عداس على نظيرها في حياته...
وعندما رأى قدمين النازفتين بالدماء، هم أن يسأله... لكن الرجل بادره ليقول:
- من أي أرض أنت..؟ ...رد عداس وهو لا يزال تحت تأثير المفاجأة:
- أنا من أهل نينوى..!
قال الرجل وقد طاف بعينيه بعيداً:
- من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى! ...أجاب عداس متعجباً:
- وما يدريك من يونس بن متى؟! ...رد الرجل بنبرة توحي باليقين:
- أنا رسول الله، والله تعالى أخبرني خبر يونس بن متى..!...تمهل الرجل قليلاً، ثم انطلق يتحدث عما يقول: ان الله أوحاه إليه بشأن يونس...
كانت كلماته تنطلق بهدوء وعفوية وصدق... لكن صداها في نفس عداس كان كريح عاصف... أخذت يهزه هزاً... فلم يجد نفسه، إلا ساجداً لله... ثم منكباً على قدمي الرجل يقبلهما...
كان إبنا ربيعة يتابعان عن كثب ما يدور بين الرجل وعداس... وما ان رأى عتبة عداساً، وهو ينكب على قدميه الرجل... حتى التفت الى أخيه قائلاً:
- قد أفسد عليك محمد غلامك..!
توفي عم النبي أبوطالب (رضوان الله عليه)... ففقد النبي بوفاته الحامي والسند الكبير بإزاء قريش وعتوها وجبروتها... حتى قال (ص) فيما بعد:
"ما نالت مني قريش شيئاً، حتى مات أبوطالب"...
وقوع هذا الحدث المؤلم، كان إيذاناً لقريش لتزيد من ضغطها وعنفها بل وبطشها بالنبي وأتباعه... ولتوصد جميع أبواب مكة بوجه الرسالة.. لكن عزيمة خاتم رسل السماء، لم تكن لتهن أو تضعف، حتى وإن وقفت الدنيا بأسرها بوجهه... فراح يبحث عن ميادين جديدة لعمله الرسالي... فوقع اختياره أولاً على الطائف...
ورغم مكائد الأعداء وتحيّنهم الفرصة للإنقضاض عليه، فقد قصد الطائف بنفسه وباشر دعوة الناس الى دين الله...
وخلافاً لطبيعة هذه المنطقة الجميلة المنفتحة، وجوّها المعتدل... فقد كانت تستقطب من ذوي العقول المغلقة، بل المتحجرة، الكثير...!
ولهذا فلم يجد رسول الله في الطائف من يصغي إليه... لا بين رجالاتها ولا من جمهورها...
الطائف التي لم تكتف بوضع أصابعها في آذانها.... أغرت سفهاءها بإيذاء النبي، فقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين...!
أجل... لم تثمر رحلة الطائف الشاقة، سوى إسلام رجل واحد... ذاك هو عداس... وفي ذاك كفاية... في حساب محمد... ألم يقل لوصيه يوماً:
- وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً، خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وعلى طول طريق العودة الى مكة... كان النبي دائم التفكير... بحثاً عن آفاق جديدة لدعوته..!
كانت الحرب آنذاك محتدمة بين الأوس والخزرج... كانتا لا تضعان السلاح لا بليل ولا بنهار...!
وجاء يوم بعاث... فدارت الدائرة على الخزرج... فخرج رجلان من رجالها الى مكة، أملاً بالتحالف معهما على الأوس ....وعندما بلغاها، نزلا على عتبة بن ربيعة...
وعلى مائدة الطعام التي أعدها عتبة لضيفيه...
افتتح أسعد بن زرارة الحديث قائلاً:
- تعلم يا ابن ربيعة! انه كان بيننا وبين قومنا حرب، وقد جئناك نطلب الحلف عليهم...
ابتسم عتبة بمرارة، وقال:
- بعدت دارنا من داركم... ولنا شغل لا نتفرغ لشيء...! ....تساءل أسعد باستغراب:
- وما شغلكم، وأنتم في حرمكم وأمنكم...! ...رد عتبة بعد أن زفر بقوة:
- خرج فينا رجل يدعي انه رسول الله، سفّه أحلامنا، وسب آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرق جماعتنا...! ....رمق أسعد رفيقه، ثم تساءل:
- من هو منكم؟! ...أطرق عتبة وقال:
- إبن عبدالله بن عبدالمطلب، من أوسطنا شرفاً، وأعظمنا بيتاً...
أطرق أسعد هو الآخر، وقد استرجعت ذاكرته مقولة لطالما سمعها من اليهود:
"إن هذا أوان نبي يخرج بمكة، يكون مهاجره بيثرب"...
رفع أسعد رأسه، كمن يبحث عن دليل يعزز به ما دار في خلده وقال:
- فأين هو؟! ...رد عتبة بنبرة لا تخلو من سخرية:
- في البيت – يعني البيت الحرام – جالس في الحجر – أي حجر إسماعيل... ثم رفع إصبعه محذراً:
- لا تسمع منه ولا تكلمه... فإنه ساحر يسحرك بكلامه...!
أجاب أسعد مبتسماً:
- فكيف أصنع.. ولابد أن أطوف بالبيت؟! ...قال عتبة مشيراً بكلتا يديه:
- ضع في أذنيك القطن...!
بدأ أسعد الطواف، وقد حشا أذنيه بالقطن... وعندما حاذا الحجر، لمح رجلاً يتلألأ وجهه بالنور، ومعه رجال عرف بعضهم من بني هاشم... فواصل طوافه... متظاهراً بعدم الإكتراث، غير أن نقاشاً صاخباً، أخذ يحتدم في رأسه، ثم انفجر على شفتيه همساً:
- ما أجد أجهل مني...! ...أيكون مثل هذا الحديث بمكة، فلا أتعرّفه حتى أرجع الى قومي فأخبرهم؟!
وما ان حاذا الحجر ثانية، حتى انتزع القطن من أذنيه ورمى به، ثم تقدم من رسول الله، وقال:
- أنعم صباحاً...! ...ارتسمت إبتسامة عذبة على محيا النبي، وقال:
- قد أبدّ لنا الله به، ما هو أحسن من هذا، تحية أهل الجنة: السلام عليكم..!!
أخذ الرد بلبه... فجلس، وقال:
- الى ما تدعو يا محمد؟ ...توهجت عينا النبي ببريق عجيب، وهو يقول:
- "الى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله... وأدعوكم الى أن لا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً... ولاتقتلوا أولادكم من إملاق... ولاتقربوا الفواحش... ولاتقتلوا النفس......"
واستمرت الكلمات النبوية تتدفق، كينبوع... بل أنشودة متناغمة... توقع على النفس وتداعب القلب...!
وأحس أسعد كما لو أن دفئاً عذباً يتسلل الى روحه... رحيقاً عابقاً بأريج السماء تتشربه مشاعره... فلم يملك نفسه أن هتف بصوت متهدج:
- أشهد أن لا إله إلا الله، وانك رسول الله...!
ثم تقدم أكثر نحو النبي، وانكب على يديه يقبلهما، وهو يقول:
- يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، وبيننا وبين إخوتنا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أجد أعز منك...
ثم انبجست عيناه بالدموع وهو يضيف:
- والله يا رسول الله، لقد كنا نسمع من اليهود خبرك، ويبشروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك... وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك...!
توقف أسعد عن الحديث، كمن تذكر شيئاً... تلفت يمنة ويسرة باحثاً عن صاحبه... ثم نهض ليعود به بعد قليل... ليسلم هو الآخر على يد النبي.
وهكذا فتح هذا الحدث الصغير الباب أمام دعوة الإسلام لتنطلق الى يثرب، حيث أقامت هناك قاعدتها الراسخة... ومن هناك راحت تبث أشعاعها لتغمر الآفاق...!!