سار موكب اُسارى آل محمد في طريقه الى الكوفة ...مهيض الجناح ...مجللا بالحزن والالم ...!
ماأضفته السماء على بيت الرسالة...استباحته الجاهلية الاموية بقســوة ...!
لازالت اجساد الحسين واهل بيته وصحبه ، متناثرة على ارض المعركة ، كتناثر النجوم على صفحة السماء ...لكن الموكب سار ، يدعّه جنود امية باسنة الرماح دعّا...!
ياللطفولة البريئة ...! مروعة العيون ...ذابلة الشفاه... هزيلة الابدان ...!
دموعهم تنسكب بغزارة... كل ماحولهم باك ...فكيف لايبكون ...!! ...الامهات ...الاخوات ...العمات...!
قافلة من النساء والاطفال ...ليس فيها رجال ...الا شاب عليل ..!
ياللنسوة الطاهرات المفجوعات ...الا تهادنكن لوعة الحزن ..؟!..الا يرقأ دمعكن ساعة ...؟!
في مقدمة الركب ...سارت به ناقته ، مثقلا بالقيود ....يفترس بدنه الضعيف ، الهم والالم ...لكن وجهه ظل يفيض بنور سرمدي ...وعينيه تتألقان بعزيمة قاهرة !!
انه ثمالة الاوصياء ...علي بن الحسين ...زين العباد ..!
وخلفه ..وبين يديه..ووسط القافلة وآخرها ...كانت هناك امرأة ،...تتنقل بين افراد القافلة مرفوعة الرأس ، غارسة في نفوسهم الامل ...ذائدة عن ارواحهم الشفافة ، احساس الذل ...!
عجبا لهذه المرأة ...لاتأبه للاسر والقيود ...بل تشمخ كقمة من البطولة والصمود..!
انها زينب بنت علي (ع) .
وفيما بدت معالم الكوفة ، تتضح شيئا فشيئا ...تضاعفت مشاعر الحزن والالم على وجوه تلك الكوكبة المفجوعة ...!!
مهرجان الانتصار المزيف الذي اعلنه والي الكوفة ، عبيد الله ابن زياد لم يستطع ان يزيل عن صدرها ذلك الكابوس الثقيل ، من شعور الاثم والخزي...!!
الكوفة التي تعبأت لحرب ابن رسول الله ...كانت كمن يغط في نوم عميق ، ثم استفاقت...! لتصحو على الحقيقة المروعة : لقد أراقت الدم الزكي لريحانة النبي...! استباحت اعز حرمات الله ، في اول الاشهر الحرم ...!
اجل لقد غدرت بالحسين ... هذا الرجل الطاهر ...بايعته على الولاء والنصرة ...حتى اذا مااستجاب لها ...وخاطر بنفسه واسرته وذويه وصحبه ...عدت عليه تقاتله ...!!
الظلام الدامس والصمت المطبق ، الجاثمان على المدينة ، يحكيان هدوء السطح..وفي الاعماق..موجات عاتية من مشاعر الاثم وتأنيب الضمير ، تتقاذفها...! ..فهي لاتكف عن جلد نفسها ...إلهابها باسواط الندم ...وانها لتفعل ذلك بصمت ...كما لو تخال ان فعلها هذا سيكفر عنها جنايتها ...!
ولكن ..اتراها تستطيع ، ان تسقط من سجلها ، فعلتها الشنيعة تلك ...؟؟
هل سينسى التأريخ انها روّت ثراها ، بالدم النبوي ؟؟!!
وقفت تتطلع الى قافلة الاسرى ، مع حشود الناس المتدافعة على جانبي الطريق ، المؤدي الى قصر الامارة ...
لاتستطيع ان تصدق ..! ياإلهي ..! أهولاء آل النبي ..؟! ..أهذه الرؤوس المرفوعة على اسنة الرماح ، هي رؤوس رجالهم ..؟! ...أهذا الشاب المكبل بالحديد على رأس القافلة من شبابهم ..؟! أهولاء النسوة اللائي يلفهن الحزن والكمد والحياء ، من نسائهم ..؟! أهولاء الصبية المتلألئون كالاقمار..الحمر العيون من شدة البكاء ؛ صبيانهم ...؟؟!!
أوشك قلبها ان يثب من صدرها ..! ورأسها ان يتحطم..!..انفاسها بدأت تضيع ..وكأن مشاهد الالم ، اذرع اخطبوطية ، أخذت بخناقها ...!
ورغم شدة الزحام والصراخ ...فقد عرفتها ..وهي تمر امامها ..اجل انها هي ...المرأة التي احبتها ... المعلمة التي اخذت بيدها لتفتح عينيها للنور... تلقت عليها - يوم كانت صبية - دروس القرآن في مسجد الكوفة ..!
ياه...! لقد مضى على ذلك الزمن عشرون عاما ..!!
ارادت ان تناديها ...سيدتي زينب ..!!..لكنها خافت ...! ..انسكبت دموعها ، وهي تناجي نفسها :
-زينب...! يانبراس الطهر والعفاف ...ياقلعة الصبر والثبات...!
زينب...! يادوحة ضاربة الجذور في الاصالة والنبل ، سامقة الاغصان في المجد والشرف ... انت : عنوان المفاخر كلها ... بضعة محمدية علوية نقية ، لم تشوبها انجاس الجاهلية ولا ارجاسها...!
رأتها تومي لجموع الناس ان يسكتوا ... فلما سكتوا ...وهدأ الضجيج ...انطلقت ابنة علي تتكلم -وكانما تُفرغ عن ابيها -حامدة الله ، مصلية على الرسول ..ثم قالت:
-...وبعد ياأهل الكوفة ...! ياأهل الختل والخذل والغدر..!أتبكون ..؟!...انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا....
تعالت اصوات البكاء ...فيما واصلت زينب :
لقد ذهبتم بعارها وشنارها ...ولن ترحضوها بغسل ، بعدها ابدا ...
صاح احدهم :
-حسبك يابنة رسول الله ...فيما اخذ رجل عجوز يضرب راسه ويقول :
-صدقت بابي وأمي ..! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خيرالشبان...ونساؤكم خير النسوان ، ونسلكم خير نسل ..!
شعرت المرأة ، كما لو ان الارض تميد بها ... ثم تدور بسرعة جنونية ، فتهاوت على الارض مغميا عليها ...!!
مع وصول أُسارى آل محمد ورؤوس شهداءهم ، اُضفي على قصر الامارة ، مزيدا من مضاهر البهرجة والزينة ..!
وفي الشرفة المطلة على الباحة الرئيسية للقصر ...جلس ابن زياد ، وامامه اناء مغطى بمنديل..وعلى يمينه منبر..وعلى جانبيه توزع رجال الحاشية وقيادات الجيش...فيما احتل باحة القصر جمهور من الناس وعدد كبير من الجنود .
...اطلق ابن زياد اشارة خاصة ، فادخل اُسارى آل الرسول...يتقدمهم علي السجاد يرسف بقيوده ...
وبعد ان أخذ الجميع اماكنهم ...تناول ابن زياد قضيبا من الخيزران ، كشف به المنديل عما تحته ...فبان الرأس الشريف لابي عبد الله الحسين (ع) .
ومع تعالي صيحات حرم الرسول ...اخذت عصا ابن زياد ، تنكث شفتي ابي عبد الله ...!!
وفجأة شق الجموع رجل ، مطلقا صوتا قويا ، دوى كزلزال باذنّي ابن زياد :
-ارفع هذا القضيب عن هاتين الشفتين ...فوالذي لااله غيره ، لقد رأيت شفتي رسول الله (ص) على هاتين الشفتين يقبلهما.........قال الرجل ذلك ثم انتحب باكيا.
-استشاط ابن زياد غضبا وصرخ :
-ابكى الله عينيك ، فوالله ، لولا انك شيخ قد خرفت ، لضربت عنقك ..!
خرج الشيخ وهو يدمدم :
-انتم يامعشر العرب العبيد بعد اليوم..قتلتم ابن فاطمة، وامرتم ابن مرجانة!!
ابن زياد الذي باغتته هذه الصفعة القوية ، اراد ان ينفس عن غضبه ، فالتفت الى اسارى آل البيت ، مخاطبا العقيلة زينب بقوله :
-"الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَحَكُمْ وَ أَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ"! .... ردت زينب بقوة وصلابة:
- "الحمد لله الذي اكرمنا بمحمد(ص)وطهرنا تطهيرا إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ ، وَ يَكْذِبُ الْفَاجِرُ ، وَ هُوَ غَيْرُنَا".
تململ ابن زياد محاولا لملمة نفسه وقالَ :
"كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَ أَهْلِ بَيْتِكِ؟" ...... رمت ابنة علي بحممها، قائلة :
"مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا ...! هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَ تُخَاصَمُ ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ...!"
أطارت هذه الكلمات ماتبقى من صواب ابن زياد ، فحار كيف يفعل ...فتقدم احد رجال الحاشية - انقاذا للموقف- وقال :
-اصلح الله الامير، المرأة لا تُوآخذ بشئ من منطقها .؟!
اطلق ابن زياد ضحكة هستيرية ، متظاهرا بالاستخفاف بما سمع ، ثم اتجه الى المنبر يرتقيه بخطوات متعثرة ..وقال :
-الحمد لله الذي اظهر الحق..ونصر الامير يزيد وحزبه...ثم راح يهاجم آل البيت...متهما الحسين وأباه بالكذب ...!
بيد ان صوتا هادرا قطع عليه ، وكانه صفعة جديدة ادارت رأسه :
-يابن مرجانه ..! ان الكذاب ابن الكذاب انت وابوك ، والذي ولاك وأبوه ...اتقتلون ابناء الانبياء ، وتتكلمون بكلام الصدقيين .؟؟!!
ارتجف صوت ابن زياد وهو يزعق :
-عليّ به ..!
انبرى اليه الجلاوزة ...فتواثب فتية من بني الازد... دافعوهم ، اشتبكوا معهم بالايدي ...قبل ان ينتزعوه من ايديهم ...
ابن زياد الذي خشي سريان اللهيب ...هبط من المنبر مسرعا ...فارا من ساحة المواجهة بجلده ...!
الوضع الذي اخذ يتفاعل في الكوفة– في ظل وجود الاسرى - بات ينذر بتطورات غير محسوبة...لذا فقد سارع ابن زياد ، الى تسوية عاجلة لهذه القضية مقررا ترحيلهم الى الشام ...!!