إخوتنا الأعزّة المؤمنين، السلام عليكم ورحمة اللهِ وبركاته.
روي عن أمير المؤمنين عليٍّ سلام الله عليه قوله: "إذا كان في رجلٍ خلّةٌ رائقةٌ فانتظروا أخواتها". وعن الإمام جعفر الصادق سلامُ الله عليه قال: "إنّ خصال المكارم بعضها مقيدٌ ببعض"، ثمّ أخذ عليه السلام يعدّدها: "صدقُ الحديث، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافاة بالصنايع، وأداءُ الأمانة، وصلةُ الرّحِم، والتودّدُ إلى الجار والصاحب، وقرى الضّيف.. ورأسهنّ الحياء".
نعم أيها الإخوة هكذا تتلازم المكارم، فمن عرف بالرحمة توقّع الناس منه العدل والكرم، والعطف على اليتيم والمسكين والمحروم. وإذا كان الناسُ قد حظوا ببعض المكارم في درجاتٍ منها، فإنّ أهل البيت النبويّ، محمداً وآل محمّد صلوات الله عليهم قد توافدت المكارم كلّها عليهم وفي أعلى درجاتها، وأشرف منازلها وحالاتها. والصدِّيقة الكبرى فاطمة عليها السلام هي من أهل البيت بل محورهم، صلوات الله عليها وعليهم، وقد عُرفت بالرحمة، بل اشتهرت الرحمة بها وبأهل بيتها، صلوات الله عليهم وعليها، وكيف لا، وقد خلقها الله تبارك وتعالى برحمته، ولرحمته، ففاضت على الوجود لطفاً وحناناً ونوراً وبركة، فلم تحرم أحداً، إلاّ من حرم نفسه، وأخطأ حظّه، واختار لعيشه الضّنك ولمصيره الهلاك والشّقاء! وإلاّ فرحمةُ فاطمة هي تجلٍّ لرحمة الله عزّوجلّ، ولم لا وهي بضعةُ المصطفى الذي خاطبه الباري جلّ وعلا بقوله: "وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين"(الأنبياء:۱۰۷).
وتبلغ الرحمة من الزهراء فاطمة عليها السلام أيها الإخوة الأحبّة أن تتوجّه إلى من خارج الدار قبل أهل الدار! يروي الشيخُ الصدوق رضوان الله عليه في (علل الشرائع) عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: كانت فاطمة عليها السلام إذا دعت تدعو للمؤمنين والمؤمنات، فقيل لها: يا بنت رسول الله، إنّك تدعين للناس ولا تدعين لنفسك؟ فأجابت: "الجار، ثمّ الدار".
وكان ولدها الحسن المجتبى عليه السلام قد رآها في محرابها ليلة جمعتها تصلي حتّى اتّضح عمود الصبح، وسمعها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، تسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء، فسألها في ذلك فأجابت: "الجار ثمّ الدار".
وتبلغ رحمتها ورقّتها صلوات اله عليها أيها الأعزّة أنّها كانت تبكي لمصائب لم تقع بعد، بل ستقع بعد عقودٍ من السنين! كما تبكي لمصيبةٍ حلّت. جاء في (تاريخ الطبريّ) أنّ فاطمة عليها السلام أقبلت على أبيها رسول الله وهو يحتضر، فدخلت من وراء الحجاب وهي باكية، فسألها عن ذلك فقالت له: سمعتك تقول في ابنِ عمّي وولدي ما تقول! وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يخبر عن شهادتهم مظلومين صابرين، صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي (بحارالأنوار): لمّا حضرتها الوفاةُ بكت سلام الله عليها، فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: يا سيدتي ما يبكيك؟ فأجابته: أبكي لما تلقى بعدي. وأما مهجة فؤادها الحسين، فقد بكته من أعماق قلبها بحرقة واعتصار ألمٍ مرير، وبدموعٍ نبيلةٍ مقدّسةٍ رحيمة، جرت من عيونٍ عابدة، وعن قلبٍ مليءٍ بالعطف. نعم، جرت تلك الدموع الطاهرة في مرضاة الله، وتحدّرت في طاعة الله؛ لأنها درّت حزناً على أزكى أولياء الله. روى الشيخ المجلسيّ في (بحارالأنوار) عن بعض تأليفات الثّقات أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لما أخبر ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسين عليه السلام وما يجري عليه من المحن، بكت فاطمة بكاءً شديداً، ثمّ سألته يا أبت متى يكون ذلك، فقال: في زمانٍ خالٍ منّي ومنك ومن عليّ. فاشتدّ بكاؤها وانبثق منها سؤالٌ ذو همٍّ نبيل، ورحمةٍ أخريى: يا أبتِ فمن يبكي عليه، ومن يلتزمُ بإقامةِ العزاء له؟ فأجابها صلّى الله عليه وآله: "يا فاطمة، إنّ نساء أمّتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي، ويجدّدون العزاء جيلاً بعد جيلٍ في كلّ سنة، فإذا كان القيامة تشفعين أنت للنساء، وأنا أشفع للرجال، وكلُّ من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناهُ الجنّة".