إخوتنا الأحبّة الأفاضل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنّ ممّا حبى الله تبارك وتعالى أوليائه اطلاعهم على الغيب، وإن تضمّن ذلك الغيب ما سيجري عليهم من النكبات والمظالم والآلام، والقتل! وذلك لعلمه عزّوجل بصبرهم وتسليمهم لقضائه، بل ورضاهم عن كلِّ ما يصدر من مشيئة وإرادته بحكمته جلّ وعلا…فكان منه الامتحان، وكان منهم النجاح والفلاح والتوفيق، ببركة الصبر.
ومن هنا جاء في زيارة الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليها السلام أن نقول في خطابنا لها: "السّلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة"، وفي نصٍّ شريفٍ آخر: "السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلُقك، وكنت لما امتحنك به صابرة". وقد كانت مشاهد المستقبل حاضرةً أمام عيني فاطمة الزهراء عليها السلام إذ أطلعها الله عزّوجلّ عليها، وأخبرها أبوها رسول الله صلّى الله عليه وآله بها وكانت تلك المشاهد مهولة، لا تطاق لولا أنّ الله علم أنّ أمته الزهراء أهلَ لتحمّلها والصبرعليها…ولقد لاحت في خاطرها الشريف مصائبها ومصائب أهل بيتها، فكانت أعدّت لها صبراً يجتازها ويفوقها، وهي الصابرة الراضية المرضية، ألقاباً سماوية، وحقائق واقعية، فأذعن لها الجلدُ والثبات، ورقى صبرها إلى الشكر والرضى والتسليم لأمر الله جلّ وعلا بلا أيّ جزعٍ أو ملالةٍ أو يأسٍ أو اعتراض…وكيف لا وهي الصدّيقة الكبري، وموضع وصية النبيّ المصطفى!
روى المتّقي الهندي- أحدُ محدّثي أهل السنّة- في كتابه (كنز العمّال) أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال لابنته فاطمة: "إنّ جبريل كان يعارضني القرآن كلِّ سنةٍ مرّة، وإنّه عارضني العام مرّتين، ولا أراني إلاّ حضر أجلي، وإنّك أوّل أهل بيتي لحاقاً بي، فاتقّي اللهَ واصبري؛ فإنّه نعم السّلفُ أنا لكِ". وفي (أمالي الطوسيّ) أنّها سلام الله عليها لمّا رأته على فراش الوفاة وقد تغيرت حاله، خنقتها العبرةُ حتّى فاض دمعها…فقال لها: "يا فاطمة، توكلي على اللهِ واصبري كما صبر آباؤك من الأنبياء، وأمّهاتُك من أزواجهم".ولم تكن فاطمة عليها السلام لتفارق الصبر، وكيف تفارقه وهو الإيمان، وكيف يفارقها والمصائب لم تفرقها يوماً ما؟! ثمّ تتخلّى عن عهدٍ عهدَته لله تعالى لأبيها رسول الله يوم جمعها مع عليٍّ والحسن والحسين عليهم السلام وأغلق عليهم الباب وخاطبهم بقوله: "يا أهلي وأهل الله، إنّ الله عزّوجلّ يقرأ عليكم السلام"، وهذا جبرئيلُ معكم في البيت يقول: إنّ الله عزّوجلّ يقول: "إنّي جعلتُ عدوّكم لكم فتنة "، فما تقولون؟ قالوا: "نصبُر يا رسول الله لأمر الله"، وما نزل من قضائه حتّى نقدم على الله عزّوجلّ ونستكمل جزيل ثوابه، وقد سمعناهُ يعدُ الصابرين الخير كلّه.
فبكى حينها رسولُ الله صلى الله عليه وآله حتّى سمع نحيبه من وراء البيت، فنزل عندها قوله تبارك وتعالي: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً".(الفرقان:الاية العشرون)
والآن – أيها الإخوة المؤمنون- هل يمنعُ الصبرُ أن تسحُّ الدموع، أويحزن القلب على ما سيجري على أحبّة الله وأوليائه؟! لا أبداً؛ فإنّ البكاء لا ينافي الصبر، إذ هو من رحمة الله في قلب المؤمن، فكيف بسادة المؤمنين؟!
ولقد بكت سلامُ الله عليها على زوجها أميرالمؤمنين عليه السلام حينما سمعت من أبيها أنّه يقتل مظلوماً، وأنَّ ولدها يقتلون مظلومين…هكذا روى سلمان الفارسيُّ المحمّديّ رضوان الله عليه، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله عرّف بأوصيائهِ أئمّة الحقّ، فبدأ بعليٍّ سلامُ الله عليه يذكر جملةً من فضائله، ومنازله، إلى أن قال: "وهوالفاروق بين الحقّ والباطل، وهويعسوب المسلمين، وإمام المتّقين، وقائد الغُرّ المحجّلين، والحاملُ غداً لواء ربّ العالمين، وهو وولداهُ من بعده، ثمّ من ولدِ الحسين ابني تسعةٌ هداةٌ مهديون إلى يوم القيامة" ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: "شكو إلى اللهِ جحود أمّتي لأخي وتظاهرهم عليه وظُلمهم له وأخذهم حقّه".
قال سلمان: فقلنا له، يا رسول الله، ويكون ذلك؟! قال: "نعم يقتل مظلوماً من بعد أن يملأ غيظاً، ويوجدُ عند ذلك صابراً. قال سلمان: فلمّا سمعت ذلك فاطمة أقبلت حتّى دخلت من وراء الحجاب باكية، فلمّا سألها عن ذلك قالت له: سمعتك تقول في ابنِ عمّي وولدي ما تقول، فقال لها: وأنت تظلمين وعن حقّك تدفعين".