الحمدُ للهِ حمدَ الشاكرين، وأزكى الصلاة على سيد النبيين، وعلى آلهِ الهداة المخلصين.
إخوتنا الأكارم- السلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته.
مرّةً أخرى نعود إلى الحياء الفاطميّ تستفيدُه الأمّةُ دروساً في حياتها الأسرية، وحياتها الاجتماعية، وقد بلغ ذاك الحياءُ مبلغَه من الإنسانية الرفيعة والعزّةِ المنيعة، حتّى أنّ الزهراء الصدّيقة فاطمة عليها السلام وهي حليلةُ أميرالمؤمنين عليٍّ عليه السلام وأمُّ أولاده، وابنةُ ابنِ عمّه رسول الله صلّى الله عليه وآله، كانت تستحيي أن توردَ عليه طلباتِ البيت وحاجاته، وهي تراه يكدّ ساعات، ويعبد اللهَ ساعات، ويجاهد ساعات، فإذا عاد إلى البيت لا تذكر له ما نقص في البيت أو ما أعوزَه من حاجات…فأيُّ حياءٍ ذاك، وأيةُ رحمةٍ تلك؟!
في (كشف الغمّة) للإربليّ، و(تفسيرفرات الكوفيّ)، عن أبي سعيد الخُدريّ؛ قال: أصبح عليٌّ ذاتَ يومٍ فقال: يا فاطمة، عندكِ شيءٌ تغذّينيه؟ فقالت: لا والذي أكرمَ أبي بالنبوّة وأكرمكَ بالوصية، ما أصبحَ الغداةَ عندي شيءٌ أغذّيكه، وما كان عندي شيءٌ منذ يومينِ إلاّ شيءٌ كنتُ أوثِرك به على نفسي وعلى ابنيَّ هذين. فقال عليٌّ عليه السلام: يا فاطمة، ألا كنتِ أعلمتني فأبغيكم شيئاً! فقالت: يا أبا الحسن، إنيّ لأستحيى من إلهي أن تكلّف نفسك ما لا تقدر عليه.
كان هذا- أيها الإخوةُ الأفاضل- مع الزوج، فكيف مع الناس؟! لقد كانت فاطمة- وهي الصدّيقة الكبرى وسيدة نساء العالمين، والعارفةُ بالله ربّ السماوات والأرضين- ترى أنّ من أسباب العفاف ابتعادَ النساءِ عن محافل الرجال وملاقاتهم ما استطاعت إلى ذلك، فهو خيرٌ لها وللمجتمع، وأدعى لسلامة الأجواء وتجنّب المفاسد، فللمرأة حرمتُها وحريمُها، وكرامتها، فلا يناسبها الابتذال والاختلاط.
جاء في (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب عن (حلية الأولياء)لأبي نعيم، و(مسند أبي يعلى)…أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله سأل ابنته فاطمة: أيُّ شيءٍ خيرٌ للمرأة؟ فأجابته: "أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل". فضمّها رسولُ اللهِ إليه وقرأ قوله تعالي: "ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ".
وفي (نوادرالراونديّ) عن الإمام موسى بنِ جعفر، عن آبائه عليه وعليهُم السلام: قال عليٌّ عليه السلام: "إستأذَنَ أعمى على فاطمةَ عليها السلامُ فحَجَبتَه (أي جعلَت بينها وبينَه حجاباً"، فقال- رسولُ الله صلّى الله عليه وآله لها "لم حجبتيهِ وهو لايراك؟!" فقالت عليها السلام: "إن لم يكن يراني فإنّي أراه، وهويشمُّ الريح"، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "أشهدُ أنّك بضعةٌ منّي".
هكذا لا تحبّ فاطمة التقيةُ النقية أن تنظر المرأة إلى الرجال طويلاً، كما تنبّه من اقتراب الرجال من النساء فإنّ لهنّ ريحاً في أبدانهنّ وثيابهنّ، لا ينبغي أن يبلغ مشامَّ الرجال… وذلك هوالعفافُ الفاطميّ.
وتستعدّ الصدّيقة الزهراءُ فاطمة صلواتُ الله عليها للرحيل إلى العالم الآخر، فيكون أحدُ همومها الكبرى بدنُها المقدّس، كيف سيشيع فيرى ظاهراً من فوق الجنازة!
كتب اليعقوبيُّ في (تاريخه) أنّ فاطمة عليها السلام قالت لأسماءَ بنت عميس: عند وفاتها: ألا ترين إلى ما بلغت، فأحمل على سرير ظاهر؟!
فقالت لها أسماء: لا لعمري يا بنت رسول الله، ولكنّي أصنع لك شيئاً كما رأيته بالحبشة (وكانت أسماء ممّن هاجرن إلى الحبشة مع زوجها جعفر الطيار رضوان الله عليه). قالت فاطمة: فأرينيه. فأرسلت إلى جريدة رطبة فقطّعتها، ثمّ جعلتها على السرير نعشاً، وهو أوّل ما كانت النعوش.
قال الراوي: فتبسّمت فاطمة، وما رئيت متبسّمة بعد رسول الله إلّا يومئذ). و في رواية زيد بن علي عليه السلام أنّ فاطمة قالت لأسماء: يا أمّ، إنّي أرى النساء على جنائزهنّ إذا حملن عليها تشفّ أكفانهنّ، وإنّي أكره ذلك. فذكرت لها أسماء النعش. فقالت عليها السلام: اصنعيه على جنازتي. ففعلت ذلك. وفي (ذخائر العقبي) للمحبّ الطبريّ الشافعي أنّ فاطمة عليها السلام قالت لأسماء: إنّي قد استقبحت ما يصنع بالنساء، أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها. فقالت أسماء يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة! فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثمّ طرحت عليها ثوباً. فقالت فاطمة عليها السلام: ما أحسن هذا و أجمله، لا تعرف به المرأة من الرجل.