"الحمد لله بارئ السماواتِ والأرضين، وأفضل صلواتهِ على النبيّ المصطفى الأمين، وعلى آلهِ الهداةِ الميامين " . السلامُ عليكم- إخوتنا الأعزّة المؤمنين- ورحمة الله وبركاته. الحياء…علامةُ العفّةِ والعزّة والشرف النزيه، وتعالي النفسِ عن مدنسّاتِ الكرامة، علامةٌ للحصانة الأخلاقية العالية، والروح الإيمانيةِ المتعالية. اتّصف بذلك الأنبياء والأولياء عليهمُ الصلاةُ والسلام، فاستحيوا من الله تعالى أن يأتوا بما يكرهه جلّ وعلا، فضلاً عمّا يغضبُه ويسخطه…وتعفّفوا مع الناس وتنزّهوا، بل خجلوا من أنفسهم أن يكون منهم مثلُ ما يصدرُمن عامّة الناس، حتّى في الفكرة والخاطرة. وإذا كان الحياء صفةً ممدوحةً لكلّ الناس، فإنّه مطلوبٌ في النساء أكثر َمن غيرهنّ، وحياءُ الصدّيقةِ الزهراء فاطمة عليها السلام يبقى مثالاً يقتدى وصفحةَ نورٍيهتدى بها ويرتقى…فلنقرأ بعض أسطرٍ من تلك الصفحة المباركةِ بعد هذه الوقفة القصيرة. إنّ الحياءَ من الله جلّ جلالُه إذا ارتقى في المؤمن بلغ به درجةً من العصمة، فكيف به إذا كمل في الوليّ، ما جعله لا يميل إلى أيّ مكروه فضلاً عن الحرام، ولا يشتهي إلاّ طاعةَ الله ورضاه، ولا يبغض إلاّ ما كرهَ الله سبحانه وكرهه وكرّهه لعباده؟! في (كشف الغمّة في معرفة أحوال الأئمّة) روى الإربليّ عن الإمام عليٍّ عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال لابنته فاطمة عليها السلام: " هبط عليَّ جبرئيلُ الروحُ الأمينُ فقال لي: يا محمّد، اقرأ فاطمةَ السلام وأعلمَها أنّها استحيت من اللهِ تبارك وتعالي، فاستحيى اللهُ منها، فقد وعدها أن يكسوها يومَ القيامةِ حلّتين من نور " . ومع أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أبوها الذي درجت بين يديه، وعاشت في إحضانه الطاهرة، واختصّت به ابنةً تخدمه وتحنو عليه حتّى كانت كنيتها "أمّ أبيها" … فقد كانت سلامُ الله عليها كثيرةَ الحياء معه. يروي لنا الحاكمُ النَّيسابوري الشافعيّ في (المستدرك على الصحيحين)، والشيخُ الطوسيّ في (الأمالي) أنّ النبيَّ صلى الله عليه وآله دعا فاطمةَ ابنته ليلة عرسها، فأتت بها أمّ المؤمنينَ أمُّ سلمة رضوان الله عليها، وتقدّمت فاطمةُ وهي تسحبُ أذيالَها وقد تصبّبت عرقاً؛ حياءً من أبيها رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى عثرت، فقال لها أبوها المصطفى وقد خفق قلبه لها: أقالك اللهُ العثرةَ في الدنيا والآخرة. فلمّا وقفت بين يديه، كشف الرداءَ عن وجهها حتّى رآها زوجُها عليٌّ عليه السلام. ثمّ أخذ النبيُّ يدها فوضعها في يد عليٍّ وقال له: باركَ الله لك في ابنةِ رسول الله. يا عليّ، نعمَ الزوجةُ فاطمة. ويا فاطمة نعم البعلُ عليّ. قال عليٌّ صلوات الله عليه: "جلستُ في جانب الصفّة وجلست في جانبها وهي مطرقةٌ إلى الأرض حياءً منّي" . هكذا كان الحياءٌ في الصدّيقة الطاهرة فاطمةَ صلواتُ ربّنا عليها، ذكره جمعٌ من المحدّثين في مشاهير كتبهم، كجواهرالعقدينَ للسمهوديّ الشافعيّ، والخصائص للنسائيّ، والرياض النّضرة للمحب الطبريّ، وينابيع المودّة للقندوزيّ الحنفيّ…وغيرهم كثير. عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله دعا علياً لمّا أراد تزويجه، فرّش على وجهه من ماءٍ خاص، وعلى صدره وذراعيه، ثمّ دعا ابنته فاطمة فأقبلت تعثّرُ في ثوبها حياءً منه، ففعل مثل ذلك وقال لها: "يا بنيتي، واللهِ ما أردتُ أن أزوّجك إلاّ خيرَ أهلي" . وفي بعض الروايات جاء وصفُ مجيء فاطمةَ عليها السلام إلى أبيها بعد أن استدعاها، هكذا- على ما روته أسماءُ بنت عميس: فجاءت خرقةً من الحياء، فقال لها رسولُ الله: "اسكني؛ فقد أنكحتُكِ أحبّ أهل بيتي إليّ" . قال الزّبيديّ في كتابه (تاج العروس): في حديث تزويج فاطمةَ عليها السلام: "فجاءت خرقةً من الحياء" أي خجلةً، من الخرق والتحير. ورُوي أنّها عليها السلام أتت أباها النبيّ صلّى الله عليه وآله تعثَرُ في ثوبها من الحياء.