كان لايفتأ يحث ناقته على الاسراع يحرص دائماً لأن يكون في المقدمة. لو لم يعد أمراً مستهجناً لترك القافلة ورفاق السير وإنطلق وحيداً ليصل المدينة المنورة على جناح السرعة. ولكن أي جناح وأي سرعة وهل قصارى مايبلغه جهد ناقته غير هذا؟ أههه لو كان له جناحان يطير بهما لكان الآن في المدينة بين يدي سيده ولنال تلك المكافاة التي لايريد ولايطمع أكثر منها!
وليس أسرع مما صورته مخيلته داخلاً الدار حاملاً متاعه على ظهره. الامام يجلس وحيداً في مكانه المعهود. لمحه يدخل نهض مرحباً، تلطف بكلامه مخففاً عناء السفر عنه، يجلس هو يتحدث عن نجاح مهمته: توجهت مع مجموعة من التجار الى مصر كما أمرت ياسيدي. أحس أن صوته بدأ يرتفع. تلفت حوله محملقاً في وجوه رفاقه باحثاً عن صدى إحساسه ذاك ولما ظن أنه لم يسمعه أحد عاد يتملل المشهد الذي رسمته مخيلته. أحنى رأسه رافعاً يده بالدعاء: أحمد الله ياسيدي أن منّ الله عليك بالربح الوفير.
مدّ يده للجراب الذي وضعه بجانبه، أخرج كيسين قال وهو يقدمهما لسيده: هذا ألف دينار الذي أعطيتنيه وهذا ألف آخر ربح!! وطوفت عيناه الى وجه سيده مختبراً وقع كلماته عليه، كان يأمل الابتسامة العذبة وهي تشيع في وجهه فتتلألأ قسماته بإشراقة محببة.
يامصادف، يامصادف!!
إلتفت فزعاً كمن ضبط متلبساً بجرم: أجل أجل!
مالك ياصاحبي ألم تفرغ بعد من مناجاتك الطويلة؟ ها نحن نشرف على المدينة! ألا يخفق قلبك حنيناً لمرئى الديار؟
ها حقاً تقول، مرحى مرحى، يبدو أنني غبت في عالم بعيد، بشرت بالخير!
أمسكت السماء قطرها وعمّ الجفاف أراضي الحجاز فيبس الزرع وجثم شبح الجوع المخيف، وتمر شهور قاسية تلتهم موارد الناس المعيشية وتضيق عليهم سبل حياتهم ويخرج الناس ساعين هنا وهناك بحثاً عن لقمة العيش وهرباً من هذا الشبح المرعب. يذهبون بعيداً حيث تهل بشائر الحياة والنماء. وهكذا تتوارد القوافل التجارية على مصر والشام وتصدر عنها وهي تنوء بأحمالها من المواد الغذائية والتموينية. وكالنجدة التي يغاث بها الجيش المحاصر يستقبل الناس نبأ وصول احدى القوافل التجارية العائدة.
إن هذا الربح كثير ولكن ماصنعتم في المتاع؟
عندما دنونا من مصر إستقبلتنا قافلة خارجة منه فسألناهم عن المتاع الذي معنا وما حاله في بلادهم فأخبرونا أنه ليس بمصر منه شيء، وهكذا ياسيدي تحالفنا وتعاقدنا ألا ننقص متاعنا من ربح الدينار ديناراً!!
غاضت الإشراقة من وجه الرجل وكست ملامحه غلالة حمراء شفيفة وقال بغضب: سبحان الله. تحلفون على قوم مسلمين أن لاتبيعهم إلا بربح الدينار ديناراً؟ ثم مدّ يده الى أحد الكيسين وأردف: هذا رأس مالي ولاحاجة لنا في هذا الربح!
ولكن يابن رسول الله... إنني!
يامصادف! مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال! قال جعفر بن محمد الصادق ذاك ونهض تاركاً مولاه نهباً للحيرة!
ياإلهي ماذا يفعل، كان يحسب أنه سيدخل السرور على قلب إبن رسول الله فإذا هو يغضب. ما الذي يستطيع فعله؟ كيف له تدارك ما فات؟ وهذا الكيس، هذا المال الذي رفض الامام قبوله ماتراه فاعل به؟
أطرق مفكراً ساعياً الخروج من هذا المأزق الذي وجد نفسه فيه. هل يجتهد هو في إنفاقه في وجه من الوجوه التي يرى فيها صلاحاً ومنفعة عامة ام يذهب ويستشير الامام في ذلك؟؟
تفاقمت الأزمة وإشتدت حالة الجوع ولم تعد المؤن والبضائع التي تجلبها القوافل التجارية سوى إسعافات اولية لاتلبي الحاجة الملحة ولاتغني في مواجهة الوباء الذي إستشرى ولم تعد من وسيلة ترجى لتطويقه إلا إعلان حالة طوارئ عامة. وبدا أن الحكومة العباسية التي أغرقت الناس بالوعود بحل المشاكل المستعصية ورفع معاناة المعيشة والتخفيف عن كواهل الناس وإشاعة العدل وإنصاف المحرومين، بدا وكأنها تشعر أنها غير ملزمة بتعهداتها او أن الأمر خارج عن حدود واجباتها كحكومة ينبغي لها الحرص لإسعاد شعبها والسهر على راحته. ولهذا فقد تردت الأوضاع المعيشية أكثر فأكثر وشهدت أسعار السلع الضرورية قفزات مروعة. وبلغ الأمر حداً أنذر معه بوقوع أزمة اقتصادية مفجعة. وغرو أن تكون الوطأة أشد على الفقراء والمساكين، اولئك الذين لاتفتأ عيونهم تتطلع الى العدل والانصاف والكرامة. ولكن اذا كان أمرهم قد هان على الولاة الظلمة او على الناس فإنه لم يهن على الخالق الرازق. وكان لهم موعد مع عبد من عباد الله كل ليلة، موعد ينتظرونه بشوق. فعندما يهبط الليل ويلف الظلام كل شيء تمتد يد سخية الى ابواب الفقراء تطرقها، توزع عليهم الخبز واللحم والدراهم وبلاسم الأمل ايضاً.
لم يعرف الناس إلا رجلاً واحداً كان هذا دأبه وقد رجع الى ربه راضياً مرضياً، فمن يكون هذا ياترى؟؟
حقاً لقد كان علي بن الحسين فرع الدوحة النبوية لايجارى في الفضل والاحسان. ولكن العجيب في الأمر أن هذا الرجل يحذو حذوه في كل شيء!
لاأكتمك ياصاحبي أني سمعت من يقول إنه جعفر حفيده!
جعفر الصادق؟
وهل في الأمر مايدعو للعجب؟
أبداً أبداً ولكني حسبته في شغل عن هذا، ظننت أنه منصرف لتفقيه الناس بمعالم دينهم ونشر معارف القرآن وعلومه. ذلك أني ما رأيته يوماً إلا وقد أحاط به العلماء وطلاب العلم!!
هؤلاء أهل بيت شعارهم العلم والعمل.
"الله أعلم حيث يجعل رسالته"!!
كل شيء كما أراد، أجل كما اراد! إنطبعت على ملامحه السمراء ابتسامة صامتة وعاد يوزع نظراته الى الأكياس المسندة الى بعضها بعناية ويقول بصوت مسموع: هذا رز وهذا قمح وتلك هي زقاق السمن.
إنفرجت شفاه ثانية عن إبتسامة راضية وتراجع تاركاً مخزن المؤن، همّ بإغلاق الباب. ها من ينادي؟
ترك الباب على حاله وأسرع ملبياً: أجل يابن رسول الله!
يامعتب؟
نعم ياسيدي!
كم عندنا من طعام؟
ردّ وهو يبتسم: عندنا مايكفي أشهر كثيرة يامولاي!
أخرجه وبعه!
نعم، ماذا؟ هل أخطأ سمعه؟ لا، لايمكن وهل أن الامام لايعلم وضع السوق؟
أبيعه وليس في المدينة طعام؟
بع!
ولكن ياسيدي؟
إشتري مع الناس يوماً بيوم!
كلا إنه لايتوهم، ها هو الامام يأمره وما عليه إلا أن يقول: سمعاً وطاعة يابن رسول الله!
يامعتب إجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة. قال الصادق ذاك ودخل الى حجرة كبيرة حيث كان ينتظره تلامذته.
ودع الطلاب أستاذهم وشيئاً فشيئاً راح الجمع ينفض ويتفرق. مكث الأستاذ ريثما إبتعد تلامذته ثم نهض بهم، تناول إزاراً غليظاً ملقى هناك وخرج. وفي وجه حرارة الشمس لمح أحد التلاميذ أستاذه وهو يلج بستاناً قريباً فتعجب. ترى ما الذي رومه أستاذي من الخروج في هذا الحر؟ أليس لديه من ولده من يكلفه القيام بالعمل الذي يريد؟ واذا كان هناك من عمل يتطلب جهداً ومشقة ترى لم لايستأجر أحداً لإنجازه؟ ولم يضع وقته بمزيد من الأسئلة بل تبع أستاذه، ولشدما أذهلته المفاجئة. كان الأستاذ على شيخوخته وجلالته يمسك بالمسحاة وقد ألقى عليه إزاراً غليظاً وراح يعمل بصبر وجلد رغم الحر الشديد.
تقدم التلميذ بخطوات سريعة وهتف: جعلت فداك، اعطني، أتفك!!
رفع الأستاذ رأسه وطافت على قسماته المشرقة الوقور ابتسامة وقال: إني أحب أن يتأذى الرجل بحر الشمس في طلب المعيشة.
صغى التلميذ لكلام الأستاذ وسرحه التفكير طويلاً: لم يكن ما سمعه محض كلام، كلا، بل مشهداً حياً رائعاً، إمتزجت فيه حبات العرق بالأنفاس اللاهثة بملمس اليدين المحمرة المخشوشنة، وبهذه الشخصية القدسية الصادقة.
تذكر الرجل قطعة الأرض جرداء التي يمتلكها وقال مع نفسه: إنه درس بليغ لي، درس جديد من حياة هذا الرجل العظيم.
ألقى نظرة طويلة على ما حوله. كل شيء أخضر باسم، نظر الى أستاذه، دقق النظر الى ظهره الذي إبتل بالعرق وترقرقت عيناه بالدموع. ثم عاد يناجي نفسه من جديد قائلاً: نعم ما أخذ أستاذي به نفسه. وهل فوق إبن رسول الله من مطمح لمفاخر؟؟