أنني اهنئك أيها الفلاح المثابر.
على أي شيء تهنئني ياسيادة الوزير؟
لقد مرّ موكب الملك أمس وهو في طريقه الى الصيد من امام بستانك فسرّ الملك وإلتفت اليّ قائلاً: ما أجمل هذا البستان أيها الوزير، ألا تعلم لمن هو؟
كلا ياسيدي ولكني سأرسل من فوري من يسأل عن صاحبه.
أجل أجل، إستدعيه الى القصر وقل له إن الملك يريد البستان!!
سمعاً وطاعة ياجلالة الملك!
وهكذا تجدنا نصدع بأمر الملك، فما تقول؟
كلا ياحضرة الوزير لاأستطيع. إن هذا البستان هو مصدر رزقي ورزق عيالي، وأنا أحوج اليه من الملك الذي سيجد بغيته في مكان آخر من هذه البلاد العريضة.
إسمع يارجل، قلت لك إن البستان أعجب جلالته وهو لايريد عنه بدلاً! إسمع مني هذه النصيحة، تنازل عن البستان للملك ولاتكن أبلهاً! فهل يضيع أحد هذه الفرصة السانحة للتقرب من الملك من اجل بستان لايساوي شيء؟
التزلف الى ربي يغنيني عن التزلف لأحد من خلقه!
هكذا اذن؟ همش الوزير لحيته بعصبية ثم قال: أقول أن تقبل مني هبة جزيلة إزاء ذلك؟
لاحاجة لي بهذه الهبة المشهوظة أيها الوزير!!
أراك تصر على العناد، أتحسب أن الملك لايقدر أن يسلبك إياه بل وحتى هذا الذي فيه عيناك!!
الله أشد بأساً وأكثر تنكيلاً!!
إنه يرفض ياحضرة الملك!
يرفض؟
ومن يكون هذا الفلاح البائس ليرد لك طلباً ياجلالة الملك؟
إني في الواقع في حيرة من امره!
ماتقول ياجلالة الملك؟ وهل لمثل هذا الأمر يقال هذا؟
إيه! إني أرى غير ما ترين ياحضرة الملكة فلو أني أرغمت الفلاح على التنازل من البستان إليّ لقيل إنه يسلب خدمه ورعاياه أموالهم وممتلكاتهم!!
ولا هذا أيها الملك!
وماذا هل لديك تدبير ما؟؟
أوكل الأمر إليّ !
أني أشهد أيها القاضي أن هذا الرجل على غير دين الملك!!
أفسمعت ما قال؟ فماذا تقول انت؟
إسمع أيها القاضي إنني رجل فلاح فقير ليس لي من حطام الدنيا إلا بستان صغير وإني كما ترى منهمك في العمل صباح مساء، لاأكاد أجد متسعاً من الوقت لإزدراد طعامي فضلاً عما يقوله هذا الرجل!!
إنه يكذب ياحضرة القاضي، انا أشهد كذلك أن هذا الرجل يدين بغير دين الملك.
وهذه شهادة اخرى أيها الفلاح!
أنا أشهد!
أنا أشهد!
فما قولك؟؟ هل تريدنا أن نكذب شهادة كل هؤلاء؟ هل تعلم ما حكم الخارج عن دين الملك؟ القتل! أجل القتل!!
كانت في خطواته الهادئة الوقور وقع خاص، وقع ينبأ عن عزم وإصرار وتحدي. وعلى وجهه البهي المشرق تلاطمت موجات الغضب ورغبة الإقتصاص، وكلما إقترب من القصر الكبير الجاثم كالسجن المقيت كان أوار غضبه يشتد ويعنف ولم يبدو أن هناك مايفتأ حدة غضبه او يخفف من غلواءه إلا بلوغ القصر الكبير الذي ما فتأت عيناه تتطلع اليه وهما تقدحان بالشرر. إستولى الذهول على الحرس الذين وقفوا عند البوابة الرئيسية وهو يمر بهم كالإعصار وعندما تجاوزهم تهامسوا بحذر: النبي، النبي!
في نهاية قاعة فسيحة رصفت أرضها بالبلاط النفيس وزينت جدرانها بالتماثيل الستائر المطرزة برسوم الوحوش المفترسة، أقيم عرش كبير، فوق العرش ذاك جلس الملك إزاءه وراح يجيل في الحضور نظرات متعالية متغطرسة وكالفئران المرتجفة في جحورها خوف الوقوع بين فكي القط لاذ الحاضرون احدهم بالآخر وعيونهم ملتصقة بالأرض خوفاً وفاقة. وعلى حين غرة إنقطع الخيط اللامرئي الذي يشد الرقاب الى الأسفل فتطلعت العيون الى الخلف. كانت هناك قدمان تخطوان بقوة وثبات، راحتا تدقان بلاط القاعة كما لو أنهما توقعان لحن التمرد والثورة. الملك الذي فوجئ لأول وهلة دمدم مع نفسه بكلمة غضب مقموتة ثم مال بوجهه الى وزيره حانقاً وكأزيز الرصاص عندما يخترق حاجز الصمت منتصف الليل إنصبت الكلمات التي فاه بها الرجل في أذن الملك متوعدة منذرة بالغضب الإلهي. وهدر صوت الرجل قوياً مجلجلاً يقرع الملك ويعنفه ويدمغه واذا هو أصم أبكم لايقدر أن يدفع عن نفسه بقول او فعل. تواصل سيل الكلمات يتدفق من فم الرجل كسهام لاتطيش!
إنتهز الملك فرصة قصيرة ليقول لوزيره بضع كلمات مضطربة وينسحب الى بيته بعجلة مسجلاً على نفسه إعترافاً قاطعاً بجريمة القتل التي وصفه الرجل بها!
صرخت الملكة بوصيفتها ونهضت مسرعة لإستقبال الملك الذي دخل عليها مخدعها فجأة: مرحباً بك ياجلالة الملك!
مرّ وقت ليس بالقليل قبل أن يجيب الملك معقباً بزفرة طويلة: وبك ههههههههه.
نعمت بالاً ياحضرة الملك، أرجو لأن لايكون إلا الخير.
أطلق الملك زفرة اخرى بحرقة وأجاب: وأي خير تسألين؟ ما كدنا ننعم ببعض الراحة حتى جاء هذا النبي.
آآآآه أهذا يهمك؟؟ أدريس؟ نبي الله أدريس؟؟ وما عساه يريد هذه المرة؟
تسأليني؟ لقد كان الأمر كله من تدبيرك!! لم تدعيني أسوي الأمر بالسياسة والملاينة!
أراك نسيت ياجلالة الملك، أنسيت رفض إعطاءك بستانه او حتى العرض المغري الذي عرضه عليه وزيرك؟ بل وأكثر من ذلك، كان الفلاح القذر ذاك يتحداك ويهزأ بقدرتك وسلطانك.
لاأدري، لاأدري ماذا أفعل؟ ماذا افعل؟
لاتعكر صفو خاطرك ياملك!!
وكيف؟ وكيف لايتعكر خاطري وأدريس يلاحقني كل يوم ويعيد على مسامعي وأمام مرئى الناس ومسمعهم مايدعوه بجريمة إزهاق النفوس البريئة وإهراق الدماء الطاهرة؟
إسمح لي ياجلالة الملك أن أقول إن أدريس ماكان ليقول ما قال لو أنك أريته الحزم وجابهته بصرامة رأيك.
ما تقولين ياأمرأة؟ أظننت أن أدريس رجل نكرة لايأبه لأمره أحد؟ اطاش عقلك ام ماذا؟ ألا تعلمين أن الناس يدعونه نبي الله وأنه يخبر عن السماء؟
اذن اذا كان الأمر كما ترى، اذن دعه يوغل قلوب الناس عليك ويؤلبهم.
اذن ماذا تأمرين ياسيدتي؟
لاأقول أقتله ولكن إلقه في السجن!!
لم يحر جواباً بل نهض وراح يذرع الغرفة جيئة وذهاباً.
وواصلت الملكة لهجتها التحريضية تلك. وعند ذاك تنظر اذا ساع الأمر وفق ماتريد أبقيته في السجن حتى يعتاد الناس ذاك وينسوه ثم لك أن تفعل ماتريد دون أن تسمع كلمة إحتجاج واحدة، وإن رأيت أن الناس عادوا عليك فإعزل الوزير وقل إنه دبّر هذا العمل على غير علمك!!
هدأ الملك قليلاً ولانت أساريره ثم إنفرجت وما لبث أن أطلق ضحكة لم تخلو من توتر!!
وشاء الله أن ينجي نبيه إدريس فإختفى إلا أن صدى كلماته الثائرة الرافضة ظل يتردد ويتردد ودماء الفلاح المؤمن البريئة وعشرات غيره ظلت تفور وتفور وبكاء الأيتام وضراعات الثكالى والأرامل بقيت تستصرخ وتستصرخ حتى جاء ذلك اليوم...
دخل الملك على زوجته والفزع يطل من عينيه وهتف بصوت مبحوح: هيا هيا إسرعي، إسرعي لننجو بنفسينا !!
دعني احمل مجوهراتي !
إختاري بين رأسك ومجوهراتك!
أجل، كانت الثورة تعصف بالبلاد ولم توفق الملكة التي لم تستطع حمل مجوهراتها من حمل رأسها حتى النهاية، فقد اطيح بذلك الرأس الماكر ولم يكن الملك هو الآخر بمنجى عما حصل. ويعود إدريس عليه السلام ليقود مسيرة البشرية من جديد ببصيرة وهدى يفتح لها آفاق الرحمة اليفعة نحو اهدافها الربانية الرشيدة.