أواسط آذار من عام ٦۳۲ للميلاد الموافق للثامن عشر من ذي الحجة من العام الهجري العاشر كانت تتحرك على الطريق بين مكة والمدينة قافلة ضخمة للحجاج العائدين بعد أداءهم مناسك الحج.
رغم أن الوقت لازال ضحى إلا أن الجو حار شديد الحرارة وكأنما أريد له أن يكون تسجيلاً طموحياً آخر في حدث ذلك اليوم الكبير. الجميع كان فيما أشبه بالسباق لأن يكونوا قرب مقدمة القافلة حيث يسير القائد وحوله جمع من اهله وأنصاره.
الرجل والرجلان والثلاثة كانوا ينحازون عن القافلة عندما يبلغوا اماكنهم وبواديهم إلا أن القافلة تبقى كما هي سائرة وكأنها كائن عجيب وسط تلك الصحراء اللاهبة. على ذات ثلاث أميال من الجحفة إنما توقفت مقدمتها وصاح رجل في آخر القافلة: ما الذي جرى؟ لاأحسب أننا بلغنا الجحفة.
ردّ عليه آخر: كلا، بيننا وبينها فرسخ واحد. أليس هذا الموضع غدير خم؟
أجل هو كذلك.
تعالت الأصوات من مقدمة القافلة داعية الجميع الى النزول.
عاد الرجل الأول يسأل بضيق: عجباً ننزل على غير ماء ولامرعى؟
أجابه الآخر بهدوء: تمهل يارجل، فلعل هناك مايدعو الى هذا النزول.
وإنطلقت النداءات داعية المتقدمين والمتأخرين عن القافلة الى الإلتحاق بها. توقفت القافلة بكاملها ودار على الشفاه سؤال حائر: ما الذي حدث؟؟
لاأدري أرمل أم نار غضى؟ إن قدمي لتحترقا ياأبا عمارة!
أنظر الى الناس وأفعل مثلهم.
ومايفعل الناس؟
لف قدميك بطرف رداءك ثم أعطف مافضل منه على عصاك لتستظل به!
"يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لايهدي القوم الكافرين"
أطرق الناس رؤوسهم خشوعاً وما إن إنقطع النداء الإلهي حتى نظر بعضهم في وجه بعض ترقباً وإنتظاراً. وإنطلقت صيحات وسط الحشد الذي بدأ يتشكل في دائرة كبيرة تقول: إجمعوا رحالكم ، هلموا هلموا يارجال!! هلموا بالرحال!
قال أحدهم: وما يصنع بالرحال؟
ولما لم يجبه أحد آثر السكوت.
ولم يمض وقت طويل حتى قام في مركز الدائرة أشبه بالتل الصغير. وتعالت الأصوات المنادية من جديد: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، الصلاة جامعة!!
تقدم رجل نيف عمره على الستين يقود شاباً في ذروة الشباب واوائل الكهولة وراحا يلتقان التل ذاك حتى بلغا قمته. وساد الصمت وسط الجموع الملتفة حول ذلك المنبر، كأن على رؤسها الطير.
تكلم الشيخ فحمد الله ثم أثنى عليه بعظيم صفاته وتحدث عن قدرة الله المطلقة ورحمته البالغة ونعمته السابغة ودعا الجميع الى طاعة ربهم والاخلاص له. ثم صمت لحظات وأردف بصوت لايخلو من التهدج: أني قد دعيت ويوشك أن أجيب وقد حان مني خفوق من بين أظهركم.
تصاعدت شهقات البكاء من بين السامعين إلا أن الرجل تابع بلهجة توكيدية قائلاً: إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، كتاب الله وعترتي اهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. ثم نادى بأعلى صوته: ألست اولى بكم من أنفسكم؟
هدرت الجموع بصوت واحد: اللهم بلى!
إلتفت الرجل الى الشاب الذي وقف الى يمينه وأخذ بعضديه فرفعهما وقال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره وأخذل من خذله.
استمر صوت الرجل يتدفق وجموع الناس منصتة حتى اذا ما أراد النزول قال: معاشر الناس قولوا مايرضى الله به عنكم من القول فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فلن يضر الله شيئاً. اللهم إغفر للمؤمنين والمؤمنات وإغضب على الكافرين والحمد لله رب العالمين.
ماذا تفعل ياعمار؟ الناس تستعد للرحيل وأنت تبني خيمتك!
أي رحيل ياحسان؟ لقد امر الرسول صلى الله عليه وآله أن تقام خيمة لأبي الحسن بإزاء خيمته.
ها! وهل الرسول ينوي البقاء هنا مدة اطول؟
لاأعلم والله.
تقدم حسان بن ثابت خطوات حيث يقف الرسول صلى الله عليه وآله في حلقة من أصحابه وهتف: أتأذن لي يارسول أن أقول في هذا اليوم المبارك مايرضي الله؟
إبتسم الرسول فتألقت عيناه بضياء البشر فهتف احد الصحابة: قد أذن لك فقل يا بن ثابت، لافض فوك!
وقف حسان وقفة الخطيب الذي يستعد لإلقاء بيان حماسي، رفع يده اليمنى وصدح صوته منشداً:
يناديهم يوم الغدير نبيهم
بخم وأسمع بالنبي منادياً
يقول فمن مولاكم ووليكم
فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا
ولم تر منا في الولاية عاصيا
فقال له قم ياعلي فإني
رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه
فكونوا له انصار صدق عاليا
هناك دعا اللهم وال وليه
وكن للذي عادى علياً معادياً
تناثرت كلمات الثناء حول حسان فيما أشار رسول الله اليه وهو يقول: لاتزال ياحسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك.
إقترب عمار من النبي وقال له بضع كلمات فإلتفت صلى الله عليه وآله الى علي مشيراً اليه أن يدخل الخيمة التي اعدت له. وعلى الأثر إنطلق صوت عال يدعو الجميع الى الدخول على ابي الحسن وتهنئته بإمرة المؤمنين. وبدأ صحابة رسول الله والمسلمون الأوائل يدخلون على علي أفواجاً أفواجاً يباركون له هذا المنصب الإلهي. كانت نظرات أحدهم قوية واضحة اذا يقول: بخ بخ لك ياعلي !! أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ثم تلى ذلك وفود أمهات المؤمنين والنساء المسلمات ليرفعن التهاني لخليفة النبي. وتنتهي مراسم الإستخلاف او مؤتمر الإمامة دون ضجيج ودون مزيد ضوضاء لكنها رغم هذه البساطة أنجبت حقيقة كبيرة خالدة وساطعة كالشمس.
إتخذت القافلة الكبيرة طريقها من جديد صوب المدينة المنورة، كان التعب والارهاق بادياً على الجميع وكانت الوجوه تموج بمشاعر مختلطة ومن بعيد كان يمكن تمييز وجهه النابض بالحيوية إلا أنه كان كئيباً.
مالك ياعمار؟ دنا منه صاحبه وسأل
تأوه ! ثم سكب دموعه بحرارة.
عجباً! أفي مثل هذا اليوم تذرف الدموع؟ اولا إنني سمعت كلمة من رسول الله، لاأدري ربنا لمح بها بقرب أجله، لاأدري، لاأدري حقاً!!
أجل لولا ذلك لقلت أنني في عيد لابل في عيدين !
ياعمار أنني قلق أن يحدث لرسول الله أمر ولايكون قد إستخلف احداً يرضاه. وهل مثلك من يخفى عليه خطورة غياب شخص الرسول؟ وما ترى بعد ذلك فاعلين؟ وهل سنكون بمنئى عن الاختلاف؟ بل هل سنكون بمنجى عن كيد المنافقين واعداء الله والرسول من دول الكفر والباطل؟ ثم في الواقع إنني فرح إن وجدت هذا الإختيار الرباني يلقاه على علي بن أبي طالب، ولو أن الرسول قلدها غيره لأسفت، ليس لنا أن نعترض على قضاء الله وأمره ولكني لاأجد اهلاً لها سواه.
لقد إهتم علي بالاسلام فتى وشب يذود عنه بكل ما أوتي من قوة، لقد حضر المخاطر والحروب والأهوال دفاعاً عن هذه الأمانة الإلهية وعن النبي.
ثم توقف وتابع: ومن يدانيه علماً وبصيرة بأحكام الله وشرائع دينه. ألم يقل فيه رسول الله "أنا مدينة العلم وعلي بابها"؟
ولأول مرة يقاطعه صاحبه باك ولكن بهدوء ورفق قائلاً: فلندعو الله من اجل ذلك.
أجل الدعاء حق ولكن مالي أراك مكسور البال كأنك مرتاب؟
مرتاب؟ معاذ الله ان أكون مرتاباً ولكن يبدو لي أنك لم تستمع جيداً لكلام الرسول.
وماذا قال صلى الله عليه وآله؟
لاأعتقد أنه قال شيئاً بهذا الشأن يبعث على الكدر!
بلى بلى قد قال، بلى قد قال!!
وماذا قال؟
لقد ألمح أن الخلافة لاتجري كما أراد الله لها !!
أجل لقد سمعت شيئاً من ذلك ولكني حسبت أنه يرمي لأمر آخر.
ولكن بعد أن فصل رسول الله فيه الخطاب، أجل "فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً".
كان آخر القافلة لم يغادر غدير خم بعد عندما نزلت مباركة السماء "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلاتخشوهم وإخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً".