بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله ربّ العالمين، وأزكى الصّلوات على نبى الهدى المصطفى الأمين، وعلى آله الغرّ الميامين.
إخوتنا وأعزتنا المؤمنين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، طابت أيامكم، وأهلاً بكم في عودةٍ عاجلةٍ إلى آية الإطعام من سورة الإنسان، قوله عزّ من قائل: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً"، وربّما اقتضى البيان أن نتوقّف قليلاً عند كلمة (على حبّه)، حيث تحمل معنى يفهم حسب إرجاع الضمير فيها، فإذا اعتبر الهاء عائداً على الطعام كان المعنى: ويطعمون الطعام في حالٍ هي أشدُّ ما تكون حاجتهم إليه…
وهذا ما يعبّر عنه بــ (الإيثار)، أو على حالٍ تتوق إليه النّفس من شدّة الحاجة إليه. أمّا إذا كان الضمير في كلمة (حبّه) عائداً على الله تبارك وتعالى، كان المعنى: ويطعمون الطعام حبّاً لله سبحانه لا طمعاً في الثواب، ودليل ذلك الاية التالية: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً". نعم، وما أجلَّ العطاء حين يكون في الخفاء لا يطلب به إلاّ وجهُ الله تعالى ومرضاته، وتلك حقيقة الإخلاص الذى كان سجيةً في أهل البيت النبوي الطاهر، وقد جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: "إنّ لكلّ حقٍّ حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبَّ أن يحمد على شىءٍ من عملٍ لله".
وهنا- أيها الإخوة الأفاضل- لابدّ أن نعلم أنّ سياق الآيات في سورة الإنسان دالٌّ على حدوث واقعة، وبيانٍ قصّةٍ تذكر جماعةً خاصّةً من الأبرار وفَوا بنذرهم، ثمّ أطعموا مسكيناً ويتيماً وأسيراً، فما هو الأمر يا ترى، على وجه الوضوح؟
كتب الزمخشري - و هو من علماء أهل السنّة - في تفسيره المعروف بــ (الكشّاف) عن ابن عبّاس أنّه قال: انّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلّى الله عليه وآله في ناس، فقالوا لعلي: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولديك. فنذر علي وفاطمة وفضّة جاريةٌ لهما: إن برئا (أي إن شفيا) ممّا بهما، أن يصوموا ثلاثة أيام. فشفيا وما معهم شيءٌ (أي من الطعام). فاستقرض على عليه السلام من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوعَ من شعير، فطحنت فاطمة عليها السلام صاعاً واختبزت خمسة أقراصٍ على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا…فوقف عليهم سائلٌ وقال: السلامُ عليكم أهل بيت محمّد، مسكينٌ من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمَكُم الله من موائد الجنّة. فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء، وأصبحوا صياماً. فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم، فآثروه. ووقف عليهم أسيرٌ في اليوم الثالث ففعلوا مثل ذلك.
قال الزمخشري بعد ذلك - ناقلاً عن ابن عبّآس: فلمّا أصبحوا، أخذَ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلمّا أبصر بهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: "ما أشدّ ما يسؤؤني ما أرى بكم!"، فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرُها ببطنها، وغارت عيناها…فساءه ذلك، فنزل جبريل يقول: خذها يا محمّد، هنّأك اللهُ في أهل بيتك. فأقرأه السورة (هل أتى على الإنسان حينٌ من الدَّهر)، وفيها قولُه تعالى: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً "
ويتفّق المفسّرون على نحو هذا- أيها الإخوة الأفاضل-، تفصيلاً واختصاراً، وتفاوتاً يسيراً في العبارات، منهم: النَّيسابوري في (غرائب القرآن)، والطبرسي في (مجمع البيان)، والشَّوكاني في (فتح القدير)…
وكذا المحدّثون والمؤرّخون، لا تفوتهم هذه الواقعة التي نزل فيها وحي مبارك، منهم: ابنُ شهرآشوب في (مناقب آل أبي طالب)، وابنُ عبد ربّه المالكي المذهب في (العقد الفريد)، وسبط ابن الجوزي الحنفي في (تذكرة خواصّ الأمّة، والحافظ الگنجي الشافعي في (كفاية الطالب)…وغيرهم عشرات، تسالمت أقلامهم على أصل القصّة والحادثة، وسبب نزول سورة الإنسان أو (هل أتى)، كما أكّد ابنُ حجر العسقلاني الشافعي في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة) لدى ترجمته لفضّة رضوان الله عليها، وكذا ابنُ طلحة الشافعي في كتابه (مطالب السّؤول في مناقب آل الرسول)، وابنُ الأثير الجزري في (أُسدِ الغابة في معرفة الصحابة)، والبغوي في (معالم التنزيل)، والخوارزمي الحنفي في (المناقب)، والمحبّ الطبري الشافعي في (الرياض النضرة)، والصَّفوري البغدادي في (نزهة المجالس)…وغيرهم كثير…تناقلوا القصّة والآيات النازلة فيها تناقل المسلّمات من مشاهير الروايات.
وممّن نقل ذلك على نحوٍ من البسط والتفصيل: القرطبي فى تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)، وذلك عن: النقّاش، والثعلبي، والعسيري، وغير واحدٍ من المفسّرين، بإسنادهم عن ليث عن مجاهد عن ابن عبّاس. وقد قطع بالأمر الحافظ الكلبي الغرناطي فى تفسيره (التسهيل لعلوم التنزيل) فقال فى ظلّ آية الإطعام: نزلت هذه الآية: " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً" وما بعدها من الآيات: في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم. بل قال الخطيب البغدادي في (المناقب): إنّ هذه السورة (سورة هل أتى) نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين.
فسلامٌ على الصدّيقة الزهراء فاطمة إذ تجوع لتطعم الجياع، وسلامٌ عليها إذ لا تشبعُ ولا يشبعٌ أهل بيتها لينعم الآخرون بطعامها المبارك، فيكون منها الإخلاص والإيثار، ويكون لها من الله تعالى حسنُ الذّكر في كتابه المجيد: "إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً" فى حديثٍ مفصّل عن التكريم، حتّى يقول تعالى لهم: "إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً"