بسم الله الرحمن الرّحيم. الحمدُ للهِ الّذي أكرم عباده بشريعته، وأفضل صلواته على أفضل خلقه وبريته، وعلى الصّفوة من ذريته وعترته.
إخوتنا الأحبّة الأكارم...السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في لقائنا الطيب معكم، حيث عنّ لنا أن نقف عند آيةٍ أخرى من آيات الفضائل المشهودة لأهل البيت وفيهم فاطمة الزهراء، عليها وعليهم أفضل الصلاة والسلام والثناء...بل هي مجموعة آياتٍ جاء في السورة المعروفة بــ (سورة الإنسان، أوسورة الدهر، أوسورة هل أتى) لابتدائها بقوله تبارك وتعالى: "هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً".
إلى أن تبلغ الآيات المباركة إلى ((آية الإطعام)) مع مقدّماتها في قوله جلّ وعلا: "يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً{۷} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً{۸} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً".
ثمّ تمضي الآيات الكريمة - أيها الإخوة الأفاضل- تستعرض صور النعيم الأبديّ الذي أعدّه الله تبارك وتعالى للأبرار الذين رأوا وجودهم طاعةً لله، وما في أيديهم ملكاً لله، وأنّ مآلهم لإلى الله، فجادوا على أنفسهم بالخضوع لله، وأجهدوا أنفسهم في طلب مرضاة الله، فأفاضوا بالخير على خلق الله، يذيقونهم حلو الكلام، وطيب الطعام، مع حفظ ماء الوجوه.
في (أمالي الصدوق) قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام في ظلّ آية الإطعام متحدّثاً عن جدّه عليّ وجدّته فاطمة وأهل بيتها صلوات الله عليهم، و يقولون إذا أطعموهم: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً"، والله ما قالوا هذا لهم، ولكنّهم أضمروه في أنفسهم، فأخبر اللهُ بإضمارهم. يقولون: لا نريد جزاءً تكافئوننا به، ولا شكوراً تثنون علينا به، ولكنّا إنّما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه.
إنّ آية الإطعام- إخوتنا الأكارم- تحدّثت حول من وصفتهم الآيات السابقة بـ ((الأبرار))، وكان لهم خصالٌ نبيلة، منها: بالنَّذر على أفضلٍ وجهٍ وأحسنه، بل في أعسر حالٍ وأصعبه، إذ وصف تعالى ذلك في قوله: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ"، فذهب بعض المفسّرين أنّ الضمير في (حبّه) عائدٌ على الطعام ظاهراً، إشارةً إلى شدّة الحاجة إلى ذلك الطعام بعد صومٍ وجوع، واعتماداً على قوله تعالى: "لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ" (سورة آل عمران الاية الثانية والتسعون)
أمّآ الأبرار، فهُمُ المطيعون لربّهم، المحسنون في أفعالهم، الصابرون في عسرهم، فيوفون بالنَّذر لأنّ فيه طاعة بارئهم، وذلك هو الإيمان الصادق، ولذا كانوا من أهل الإطعام لغيرهم على حبِّ الله لوجه الله، وهذا تفسيرٌ آخر للضمير في (حبّهِ).
وإذا كانوا قد وفوا بنذرهم، فلأنّهم يحبّون الله تعالى ويخافون سخطه، إذ هو تبارك شأنه مرادُهم، ومرضاتُه طلبَهُم. وبذلك عرف الأبرار، وعهد الناس منهم وفاءَهم بالنَّذر مهما شقَّ عليهم، فهُم أصحاب الخوف الصادق ألّآ يبلغوا أقصى أمانيهم، وهي طاعة الله، ومحبّة الله لهم، ونوالُ مرضاة الله، وذلكم منتهى همّهم وهمّتهم. ثمّ لم يكن الوفاء منهم في أمرٍ عابر، بل هو خصلةٌ متأصّلةٌ في الروح العابدة لله فيهم، لذا أصبح الوفاء صفةً ملازمةً لهم، ولذلك أيضاً وصفهم الله تعالى بهذا على حال المضارعة لا الماضي المنقطع، فقال عزّ من قائل: "يُوفُونَ بِالنَّذْرِ" أي على الدوام، وفي كلّ الأحوال، وإلى منتهى حياتهم المباركة استمراراً طاعة لله عزّوجلّ.
بعد هذا – أيها الإخوة الأعزّة- دعونا ندخل إلى أفقٍ آخر من الآية الشريفة (آية الإطعام)، ذلك هو أفق الرواية، نبدأ أوّلاً: بابن المغازليّ الشافعيّ، حيث روى في كتابه (مناقب عليّ بن أبي طالب) بإسناده عن طاووس اليمانيّ أنّه قال: الآية نزلت في عليِ بن أبي طالب، وذلك أنّه صام وفاطمة وخادمتهم فضّة، فلمّا كان الإفطار، وكانت عندهم ثلاثة أرغفة، جلسوا ليأكلوا، فأتاهم سائلٌ فقال: أطعموني فإنّي مسكين، فقام عليٌ فأعطاه رغيفه، ثمّ جاء سائل فقال: أطعموا اليتيم، فأعطته فاطمةُ رغيفها، ثمّ جاء سائل فقال: أطعموا الأسير، فأعطته الخادمة فضّة الرغيف، وباتوا ليلتهم طاوين، فشكر اللهُ لهم ذلك، فأنزل فيهم هذه الآيات من سورة الدهر. هذا فيما أورد الواحديّ النَّيسابوريّ في كتابه (أسباب النزول) روايته عن عطاء أنّ ابن عبّآسٍ قال: إنّ علياً رضي الله عنه أجّر نفسه يسقي نخلاً بشيءٍ من شعير، حتّى أصبح، فقبض الشعير وطحن ثلثه، فجعلوا منه شيئاً ليأكلوا أكلةً يقال لها (الخزيرة)، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكينٌ فأخرجوا إليه الطعام. ثمّ عمل الثُّلُث الثاني، فلمّآ تمّ إنضاجُه أتى يتيم فسأل، فأطعموه ثم عمل الثلث الباقي فلما تم انضاجه اتى اسير من المشركين فاطعموه، وطووا- أي عليٌ وأهل بيته فاطمة وأولادهما- يومهم ذلك، فأنزلت فيهم هذه الآيات. ولعلّ هاتين الروايتين جاءتا على نحوٍ من الاختصار و الإبهام، ومثلُهما ما أورده الشيخ سليمان القندوزيُّ الحنفيّ في كتابه (ينابيع المودّة) حيث كتب- ناقلاً عن (ذخائر العقبى) لمحبّ الدين الطبريّ الشافعيّ- أنّ ابن عبّاس قال في ظلّ آية الإطعام: إنّها نزلت في عليٍ وفاطمة وابنيهما، وجاريتهما فضّة). كذلك كتب الحافظُ السيوطييُ الشافعيّ في ظلّ الآية المباركة في (تفسيره: الدرّ المنثور) قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة... وقال أيضاً:نزلت هذه الآية: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً"في عليّ بن أبي طالب، وفي فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.