بسم اللهِ الرّحمن الرّحيم الحمد للهِ حقّ حمده، وصلّى الله على المصطفى رسوله وعبده، وعلى آلهِ الّذين آتاهُمُ اللهُ العهد من عنده. أيها الإخوةُ الأعزّة السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في لقاءٍ جديد، وآيةٍ أخرى من آيات الفضائل التي حباها اللهُ تعالى أهلَ بيت نبيه، ومنهم مولاتنا الصدّيقة فاطمةُ عليها السلام، تلك هي (آيةُ القربى)، أو(آيةُ المودّة)، قوله تبارك وتعالى في سورة الشورى المباركة: "قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى" (الآية ۲۳)، وقد حملت إلينا هذه الآية الشريفة مفردتان مهمّتان، هما: القربى والمودّة.
والقرب إخوتنا الأفاضل يستعمل في المكان والزمان، وكذا في النّسبة والحظوة والرعاية. وقد جمع أهلُ البيت النبوي الشريف: وهم عليٌّ وفاطمةُ والحسن والحسين عليهم السلام، جمعوا في قرباهم من رسول الله صلّى الله عليه وآله: القرب النَّسبيّ، والقربَ السّببيّ، أو القُرب الرّحميّ، والقرب المعنويَّ الروحيّ، ففاطمةُ البتولُ ابنتُه وبضعته، وعليُّ بن أبي طالبٍ ابنُ عمّه، والحسنان سبطاه، وحفيداهُ من ابنته وابن عمّه. فهم جميعاً لحمةٌ واحدة، فضلاً عن كونهم نوراً واحداً، وهم كلُّهم من شجرةٍ واحدة، وأصل نبويٍّ طاهرٍ يتسلل عبر الأولياء والأوصياء والأنبياء إلى آدم عليه السلام.
هذا أيها الإخوةُ الأفاضل فضلاً عن محبّتهم لبعضهم، ووثاقةِ انشدادهم وطيب صلتِهم فيما بينهم، فلم يفترقوا، ولم يتباعدوا، حتّى أنّهم عاشوا في بيت واحد، هو بيتُ الوحي والرسالة، وعلى نفسٍ واحد، هو نفسُ التوحيد والطاعة لله عزّ شأنه فاذا كانت القربى قد سمت وعلت وتجلّت في أشرف حالاتها: روحاً وقلباً ونفساً وعقيدةً ونسبةً وحظوة، فقد كان لها ذلك في محمّد وآله صلواتُ الله عليه وعليهم. عاشوا في بيت النبوّة، فهم أهلُ بيت النبوّة، وضمّهُم كساءُ الرسالة، فأنزل اللهُ فيهم آية التطهير، وعبقت منه أنوار القداسة، فصلّى اللهُ عليهم وملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليهم، والتحموا على حبِّ الله فكانوا قربى، فأصبحت مودّتهم فرضاً من الله تعالى على عباده، فخاطب رسوله: "قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى".
أمّآ المودّة أيها الإخوة الأكارم فهي المحبّةُ الخالصة منطلقةً من الروح والقلب والبصيرة. وقد رأى المفسّرون أنّ الآية عنت هكذا: لا أسألكُم على تبليغ الرسالة أجراً إلاّ أن تودّوا قرابتي وعترتي، وتحفظوني فيهم، هكذا ورد عن الإمام عليِّ بن الحسين عليهما السلام، وكذا عن سعيد بن جبير، وعمرو بن شعيب، وجماعةٍ آخرين، وهو المرويُّ أيضاً عن الإمام محمّدٍ الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام. وهذا المعنى قد تظافرت عليه الأخبارُ من السنّة والشيعة، من ذلك ما رواه الحاكم الحسكانيُّ الحنفيّ في (شواهد التنزيل) بإسناده إلى ابن عباس أنّه قال: لمّا نزلت الآية قالوا: يا رسول الله، من هؤلاءِ الذين أمرنا اللهُ بمودّتهم؟ فقال: "عليٌّ وفاطمة وولدُهما". وبإسناده إلى أبي أمامة الباهليّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: "خُلقتُ أنا وعليٌّ من شجرةٍ واحدة.. فأنا أصلُها، وعليٌّ فرعُها، وفاطمة لقاحُها، والحسنُ والحسين ثمارها، وأشياعُنا أوراقها. فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها نجا، ومن زاغ عنها هوى. ولو أنّ عبداً عبد اللهَ بين الصّفا والمروة ألف عام، ثمّ ألف عام، ثمّ ألف عام، حتّى يصير كالشنّ.. ثمّ لم يدرك محبّتنا، كبّه اللهُ على منخريه في النار". ثمّ تلا صلّى الله عليه وآله قوله تعالى: "قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى".
لقد استقرّ الرأي إخوتنا الأعزّة عند العامّة والخاصّة، وبالدليل العقليّ والنقليّ، أنّ القربى المعنّيين في آية المودّة هُم قربى النبيّ صلّى الله عليه وآله أوّلاً لا قربى المسلمين، وثانياً هُم ابنتُه فاطمة وابنُ عمّه عليّ، وسبطاه الحسنُ والحسين عليهم السلام، وليس قرابته الآخرين. أجل، فكم من قربى المسلمين من كان كافراً أو مشركاً أو منحرفاً، بل كم كان من أقرباء رسول الله من عبدةِ الأوثان ومحاربي الرسالة كأبي لهبٍ عمّه.
وقد تعين ذلك بوضوح في جملةٍ من الأخبار الموثّقة، منها ما روى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سأل أحد أصحابه عمّا يقول أهلُ البصرة في آية المودّة، فأجابه: يقولون لأقارب رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال عليه السلام: "كذبوا! إنّما نزلت فينا خاصّةً أهلَ البيت، في عليٍّ وفاطمةَ والحسن والحسين، أصحاب الكساء عليهم السلام". أجل، المودّةُ لهذا البيت، وهي واجبةٌ على الناس، وبذلك أقرّ مفسّر أهل السنّة الفخرُ الرازيّ في الجزء السابع من (التفسير الكبير)، حيث قال في ظلّ آية الصلوات: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً" إنّ الدعاء للآل منصبٌ عظيم؛ ولذلك جعل الله هذا الدعاء خاتمةَ التشهّد في الصلاة. وهذا التعظيم لم يوجد في حقِّ غير الآل، فكُلّ ذلك يدُلّ على أنّ حبّ آل محمّدٍ واجب. وهذا أيها الإخوةُ الأحبّة ما تسالم عليه العلماء، واشتهر بين الشعراء، حتّى قال أحدهم:
إذا أوجب الرحمانُ في الوحي وُدَّهُم
فأين عن الوحي المبين ذهاب؟!
وأين عن الذّكر العزيز مذاهبٌ
وأين إلى غير الإله إياب؟!
وقال آخر:
رأيت ولائي آل طه فريضةً
علي رغمِ أهل البُعد يورثُني القربا
فما طلب المبعوث أجراً علي الهدي
بتبليغه إلاّ المودّة في القربي