بسم اللهِ الرّحمنِ الرّحيم الحمدُ للهِ كما هُو اهلُه ربّ العالمين، وافضلُ الصّلاةِ والسّلامِ على المصطفى اشرف الانبياء والمرسلين، وعلى الِهِ الغُرِر الميامين. ايها الاخوةُ الاعزّة، السلامُ عليكمُ ورحمةُ الله وبركاته، طابَت اوقاتكم واهلا بكم في حديثٍ آخَر حول الوسيلةِ التي امَرَ اللهُ عبادَه بالابتغاء اليه بها، وقد ذُكر هذا المعنى في آيتين مباركتين: الاولى: قولُه تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ" المائدة: ۳٥. والثانية: قوله جلّ وعلا: "أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ" الاسراء: ٥۷، وبما انّ الله سبحانه انّما يعبَد من حيث يامُر ويريد، لا من حيث يشتهي الناس ويقترحون، لذا فهو عزّوجلّ لا يقبل الابتغاءَ اليه الا بالوسيلة، وبالوسيلةِ هو جلّ وعلا امران يبتغى بها، لا الوسيلةِ التي تهوى النفوسُ والامزجةُ والاراء والافكارُ والخيالات، لذا رَفض عزّ شانُه ان يبتغى اليه بلا وسيلة، كما رفض ان يبتغوا اليه بوسائلهم او اقتراحاتهم، وهو القائل عزّ من قائل: "قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"؟! الحجرات: ۱٦، والان، ما هي الوسيلة التي ذُكرت في الايتينِ الكريمتين، بشكلٍ اوضح، ومُستدَلّ؟ فالى ذلك بعد هذه الوقفةِ القصيرة.
اخوتنا الاكارم، بما انّ القران الكريم حمّالٌ ذو وجوه، وانّ له ظاهرا وباطنا، وتاويلا، وجَريا وانطباقا على المصداق، لذا جاءت رواياتٌ كثيرةٌ من طُرقِ المسلمين تؤكد انّ الوسيلةَ لها معانٍ متعدّدة، وليست متعارضة، فالثعلبيّ وهو من مفسّري علماء السنّة، يكتب في (الكشف والبيان) فيقول: انّ المراد من كلمة الوسيلة في الاية هُمُ العترة، واهلُ بيت النبيّ صلّى الله عليه واله). ونستطيع ان نقول ايها الاخوة الاعزّة هم محمّد وعلي وفاطمةُ والحسن والحسين، صلواتُ الله وسلامُه عليهم اجمعين، او هم محمّدٌ وآل محمّد عليهم افضلُ الصلاةِ والسلام. والحافظ ابوبكرالشيرازي وهومن علماء السنّة ايضا يرى الوسيلة هي النّبيَّ واله، مرّةً هكذا، ومرّةً اخرى يقول: هي اهلُ البيت عليهم السلام. وامّا ابنُ ابي الحديد، وهو معتزّليُّ المذهب، فيروي مُقرّا ومُصدّقا، عن مولاتنا الصدّيقة الزهراء فاطمة عليها السلام قولَها من خطبتها، وذلك في كتابه الشهير (شرح نهج البلاغة) الجزء السادس عشر، الصفحة الحادية عشرة ومئتان، انّها سلامُ الله عليها قالت: "واحمدوا اللهَ الذي لعظمتهِ ونورهِ يبتغي من في السّماواتِ والارضِ اليه الوسيلة، ونحنُ وسيلتُه في خَلقِه". اجَل، فمن اولى من محمّدٍ واله الاطهار، صلواتُ الله عليه وعليهم ما اختلفَ الليلُ والنهار، ان يكونوا الوسيلة الى الله تعالى في خَلقه، ابتداءً وانتهاءً واستمرارا، فقد روى العالمُ الحنفي الشيخ سليمان القندوزيّ في (ينابيع المودّة) انّ رسول الله صلّى الله عليه واله قال لعلي عليه السلام: (اكتب ما املي عليك، اكتُب لشركائك الائمّةِ من وُلدِك: بهم تُسقى امّتي الغيث، وبهم يستجابُ دعاؤُهم، وبِهِم يصرفُ اللهُ عنِ الناسِ البلاء، وبهم تنزَلُ الرحمةُ من السماء).
وفي سورة الاسراء ايها الاخوةُ الاحبّة نقرأ في مدح عدّةٍ هذا النصَّ المبارك: "اولئك الذينَ يدعونَ يبتغونَ الى ربّهِمُ الوسيلةَ ايهُم اقرب" الاسراء: ٥۷، وقد جاء بعد قوله تعالى: "ولَقَد فضّلنا بعضَ النبيينَ على بعضٍ واتينا داوُدَ زبورا"، قال المرحوم السيد محمّد حسين الطباطبائي في تفسيره (الميزان): الوسيلة على ما فسّروها هي التوصّلُ والتقرّب، وربّما استُعمِلت بمعنى ما بهِ التوصُّلُ والتقرّب، ولعلّه هو الانسبُ بالسياق، بالنظر الى تعقيبه تعالى بقوله: "ايهُم اقرَب"، والتوسّلُ الى الله تعالى ببعضِ المقرّبينَ اليه على ما في الاية الكريمة قريبٌ من قوله تعالى: "يا ايها الذين امنوا اتّقوا اللهَ وابتغوا اليه الوسيلة"، وهو غيرُ ما يرومُه المشركون من الوثنيين، فانّهم يتوسّلون الى الله ويتقرّبون بالملائكةِ الكرام والجنِّ والاولياء من الانس فيتركون عبادةَ الله ولا يرجونهَ ولا يخافونه.
نعم، ايها الاخوةُ الاعزّة، هذا فيما وجدنا في الاثار ان الانبياء انفسهم سلامُ الله عليهم كانوا يتوسّلون الى الله جلّ وعلا في التقرّب اليه وقضاء حوائجهم بمحمّدٍ وال محمّد، ومنهم مولاتنا الصدّيقةُ فاطمة عليها سلامُ الله اذ كان عندهم اخبارهم، وقد جاء في (شواهد التنزيل) للحسكانيّ الحنفي عن عكرمة في بيانٍ لقوله تعالى: "اولئك الذينَ يدعونَ يبتغونَ الى ربّهِمُ الوسيلة" قال: "هُمُ النبيّ، وعلي، وفاطمةُ والحسنُ والحسين". ولا غرابةَ في ذلك ابداً اخوتنا الاعزّة، فقد توسّل بالخمسة اصحاب الكساء محمّدٍ وعلي وفاطمةَ والحسن والحسين صلوات الله عليهم ادمُ عليه السلام في توبته، كما روى السيوطيُّ الشافعيّ في (الدر المنثور) والمتّقي الهنديّ في (كنز العمّال)، وتوسّل بهِم يوسُف عليه السلام ليخرج من الجُبّ كما روي الثعلبيّ في (عرائس المجالس)، وتوسّل بهم كذلك نوحٌ عليه السلام لينجوَ من الطوفان كما روى السيد ابن طاووس في (الامان) عن ابن النجّار متقدّمِ اهل الحديث لدي اهل السنّة بالمدرسة المستنصرية.