الحمد لله أنيس الذاكرين وبهجة العارفين والصلاة والسّلام على أدلاء السالكين وملهمي العارفين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
السّلام عليكم اعزاءنا ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم في ثامنة حلقات هذا البرنامج نتابع الحديث عن العارف الكامل السيد محمد مهدي بحر العلوم (قدس سره الشريف) ضمن فقرات عدّة منها فقرة ضيف وخبير البرنامج سماحة الشيخ محمد السّند.
عرفنا في الحلقة السابقة أنّ أهمّ ما تميّز به السيد بحر العلوم (رضوان الله عليه) في مقاماته العلمية والعملية هو شدّة اهتمامه بالإخلاص في العمل لانه مفتاح الغور بأنوار المعارف الإلهية الّلدنيّة الخاصة.
وهذه المعارف أحباءنا هي (الحكمة المطلقة) التي من يؤتاها فقد أوتي خيراً كثيراً حسب التعبير القرآني.
وقد حبا الله هذا العارف الجليل بقسط وافر من هذه الحكمة المباركة كما شهد بذلك معاصروه وكلّ من اطّلع على سيرته من بعدهم.
لقد نفذت هذه الحكمة التي أثمرها إخلاص السيد بحر العلوم الى قلبه فظهرت آثارها المباركة على أقواله وسلوكياته التي اقترب فيها من حدود العصمة حتى اعتقد كثيرون من معاصريه بذلك وصرّحوا ببلوغه لمرتبة (العصمة السلوكية) وهي بالطبع غير العصمة المطلقة التي يختصّ بها أهل بيت العصمة والتطهير (عليهم السّلام).
وعلى اي حال، فقد أفرزت تجربة السيد بحر العلوم في معايشة الآثار المباركة للإخلاص كمنطلق للسير والسلوك الى الله عزّ وجلّ أفرزت أن جعلت هذا المنطلق أهمّ مميزات منهجه العرفاني (رضوان الله عليه).
ولذلك نلاحظ انه افتتح بالحديث عن منطلق الاخلاص رسالته القيّمة في منازل السير والسلوك الى الله عزّ وجلّ ثمّ ذكر بعدها المنازل.
لنا وقفة قصيرة عند هذه الرسالة القيّمة ولكن بعد تتمّة حديث خبير البرنامج سماحة الشيخ محمد السّند عن العلم الخاصّ الذي يورثه الإخلاص في العمل:
الشيخ محمد السند: الالهام او ادعاءات النبوات او الكثير ممن يهلوس ويدعي مقامات عديدة من دون ميزان وضابطة ولا هو سجن للمعرفة فقط مجرد القراءة ولقلقة اللسان بل هي جامعة بين موازين محسوسة من بيانات القرآن الكريم الذي هو من امهات واسس منابع المعرفة او الحديث النبوي وحديث المعصومين عليهم السلام ولكن بضميمة ماذا ايضاً؟ بضميمة الطهارة والتقوى لكي تكون الروح مؤهلة لأن تلتفت الى معاني نورانية وحقائق نورانية للايات القرآنية وللاحاديث الشريفة لذلك نلاحظ في قوله تعالى في سورة الواقعة: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ» طبعاً هذه الاية وان كانت خاصة بآيات التطهير وبالمعصومين الخمسة اصحاب الكساء وذريتهم التسعة المعصومين «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» المطهرون لا المتطهرون بالتوبة او بالوضوء والغسل، المطهرون الذين طهرهم الله ولكن في الاية اشعار الطهارة في غير المعصومين بقدر ما يتأتى للانسان من تطهير وطهارة يستطيع ان يرتقي وان ينال منالاً من منازل القرآن فأن للقران حقائق ومنازل لايصل اليها بشكل كامل الا المعصومين ولكن الدرجات المتوسطة او الدرجات التي هي ايضاً غائبة تحتاج الى طهارة، تحتاج الى تقوى ففي الحقيقة ليس فقط في سورة البقرة وسورة الواقعة في سور عديدة يدلل القرآن الكريم ان الانتهال والاغتراف من حقائق القرآن وبياناته وانواره وهداياته بجانب القراءة والتلاوة ومعرفة التفسير والدراسة والعلوم الكسبية لابد من الطهارة التي تحصل بالتقوى وتحصل بالمجاهدة «اتقوا الله ومن يتقي الله يجعل له فرقاناً» التقوى توجب اهلية النفس لأن تدرك المعاني وتفرق وتميز بين المعاني وبين الحق والباطل وما شابه ذلك وان كان بضميمة جناح العلوم الكسبية فهما جناحان يطير بهما الانسان لا جناح واحد، بجناح واحد لا يطير، لا بجناح العلوم القلبية فقط ولا بجناح العلوم الكسبية بل بكليهما يكون التوازن، يكون هناك الميزان، يكون هناك انضباط، يكون هناك قواعد مرعية وليس هلوسات خبطية نعم فالجمع هو الجمع في الكمال والكمال يتم فيمن يراعي كلا الجنبتين ومن ثم لا يستطيع العارف ان يستغني عن القرآن لأن القرآن هو وحي النبوة ولو كابد ما كابد عارف او صوفي او ما شابه ذلك او اي سالك لم يصل الى ما وصل اليه سيد الانبياء من الوحي ومن حقائق الغيب المودعة في القرآن الكريم او المودعة في حديث النبي وعترته الطيبين، القرآن والعترة هما الثقلين اذن القرآن والعترة هي حصيلة الوحي النبوي فكيف يمكن ان يتوهم عارف انه يصل الى ما وصل اليه النبي فمن ثم لا يستغني عن الكسب، كسب هذه العلوم النقلية للوحي النبوي فالجمع هو طريق الكمال وكم شاهدنا على اية حال من العرفا من انزوا عن العلم الكسبي واقتصر على مجاهداته النفسية، شط به المسار الى شذوذات والى انزلاقات والى انحرافات غير موزونة ومن لم يشط بهم الحال بقوا على مسافات او مستويات متدنية كذلك من جمع بين المجاهدات الروحية وتحصيل العلوم الدينية التي هي علوم الوحي نعم وصل الى شأو كبير من المقامات نعم كذلك من يقتصر على العلوم الكسبية ولا يهذب نفسه ولا يراعي ترويض النفس ولاطهارة النفس ولا التقوى ولا المجاهدات النفسية يبقى ادراكه لألفاظ الوحي وعلوم الدين والنقل والتراث الديني يبقى فهمه متديني، سطحي، حشوي اما من يراعي الجنبتان تفتح له الافاق على قدم وساق فيكون قد ربى وروض نفسه اعداد تمهيدي لأن يفاض عليه بتوسط العلوم النقلية علوم القرآن وعلوم احاديث النبي وال بيته، الثقلين نعم يفاض عليه الالتفات على المعاني العالية الرشيقة النفيسة.
نتابع أحبّاءنا هذه الحلقة من برنامج من عرفاء مدرسة الثقلين وحديثنا فيها عن العارف الكامل السيد محمد مهدي بحر العلوم.
فنقف الان عند رسالته عن منازل السير والسلوك الى الله عزّ وجلّ وهي من أهّم تراثه (قدس سرّه) المدوّن في هذا الموضوع بل من أهمّ الرسائل العرفانية لعرفاء مدرسة الثقلين.
نقل المرحوم العلامة الطهراني عن أستاذه العارف القرآني العلامة الطباطبائي عن استاذه العرفاني السيد علي القاضي (رضوان الله عليه) بأنه وصفها بقوله: لم يكتب كتابٌ في العرفان بمثل طهارتها وكثرة مطالبها.
وقد أتّخذها العلامة الطباطبائي أساساً لدروسه العرفانية السلوكية التي كان يلقيها في حوزة قم المقدسة العلمية.
وقد نبّه عدة من العلماء الأعلام الى أنّ أهمّ ما يميّز هذه الرسالة العرفانية هو لغتها الاستدلالية المنبثقة من طريقة مدرسة الثقلين في الاستدلال.
أجل فقد عمد السيد محمد مهدي بحر العلوم وهو الفقيه الامامّي البارع المتّفق على أعلميّته، عمد الى ذكر أدلّة قرآنية او حديثّية على كل حقيقة سلوكية ذكرها في رسالته سواء أكانت من العرفان العلمّي او العملية.
ولذلك جاءت هذه الرسالة القيّمة معبّرة عن إحدى المراتب المهمة لعرفان مدرسة الثقلين واصولها ومناهجها في السير والسلوك الى الله عزّ وجلّ والتقرب منه.
ننقل لكم أحباءنا هذه الحكاية من مسيرة اليد بحر العلوم التي تحمل أكثر من عبرة ووصية وملخّصها هو: أنّ السيد جواداً العامليّ صاحب كتاب مفتاح الكرامة وهو من أبرز تلامذة وأصحاب السيد بحر العلوم، كان يتعشّى في داره ذات ليلة فجاءه خادم السيد ليخبره أنّ الطعام موضوع بين يدي السيد وهو ينتظرك، فذهب اليه السيد جواد على جناح السرعة فلما دخل عليه وجد الاذى بادياً على ملامحه... قال له السيد معاتباً: أما تخاف الله؟!
إنّ رجلاً من إخوانك كان يقترض كلّ يوم وليلة مقداراً من التمر الرخيص من البقّال لا يجد غيره قوتاً له ولعياله منذ أسبوع وقد ذهب اليوم الى البقال فقال له: بلغ دينك المبلغ الفلانّي فأستحى منه ولم يأخذ التمر وقد بات هو وعياله بغير عشاء وأنت تتنعم وتأكل وهو ممن يصل الى دارك.
إعتذر السيد جواد قائلاً: والله مالي علمٌ بحاله.
فقال: لو علمت وتعشّيت لكنت يهودياً او كافراً! إنما أغضبني عليك عدم نفقّدك لأحوال إخوانك.
ثم أمره بأن يأخذ طعاماً أعدّه ومعه صرّة فيها دراهم ويذهب الى جاره وهو الشيخ محمد النجم العاملي ويضع الصرّة تحت فراشه ويقول له: قد أحببت أن أتعشّى معك ثم قال السيد بحر العلوم: إعلم أنني لن أتعشّى حتى ترجع وتخبرني أنه قد تعشّى وشبع.
ذهب السيد الجواد الى دار الشيخ محمد النجم ونفّذ ما أمره به السيد بحر العلوم، إلاّ أنّ الشيخ النجم أصرّ على أن لا يأكل ولا يقبل شيئاً حتى يخبره السيد بحقيقة مجيئه فأضطرّ السيد جواد لإخباره بأمر السيد بحر العلوم فقال الشيخ النجم: والله ما اطّلع على أمرنا احد من جيرتنا فضلاً عمن بعد، إنّ لهذا السيد شأناً عجيباً!