السلام عليكم مستمعينا الأكارم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في لقاء اليوم من هذا البرنامج.
أيها الأطائب، كثيرون هم الذين اهتدوا الى الإسلام المحمدي الحق؛ إسلام مدرسة الثقلين الزاكية ببركة التعرف الى النهضة القدسية والمظلومية المفجعة لسيد الشهداء أبي عبدالله الحسين – صلوات الله عليه -.
وهذه ظاهرة مشهودة منذ أيام كربلاء الى عصرنا الحاضر، يزيدها نورانية أثر البكاء على الحسين في بعث روح النصرة لله رب الحسين ولدينه الحق الذي هدانا إليه مصباح الهدى المحمدي الحسين عليه السلام.
فكان لهذا البكاء نورانية مقتبسة من مصباح الهدى تفجر في الإنسان طاقات الإيمان الصادق لدى الباكين على الحسين صلوات الله عليه..
وهذه الحقيقة نراها متجلية في سيرة أحد كبار العلماء الأدباء الذين اعتنقوا الإسلام وهو الذي يحدثنا عنه الأستاذ الأديب الحاج إبراهيم رفاعة حيث كتب تحت عنوان (طاقات الإيمان) يقول:
هذا مهيار الديلمي البغدادي.. شاعر كبير من شعراء العربية إبان القرنين الرابع والخامس، وهو أشهر شعراء عصره بعد أستاذه الشريف الرضي، وكان قد تحول إلى اعتناق الإسلام على يد السيد الرضي – رضوان الله عليه – وطفح شعر الديلمي العالي المتين بالإعتزاز بأهل البيت وبافتخاره بالإنتماء إليهم.. منفتح القلب على حبهم ومودتهم.
وإذا كان حب المرء لآل محمد صلوات الله عليهم علامة على طهارة مولده وطيب عنصره.. فإن مهياراً قد دلّ بهذا الحب الصادق والولاء لأهل البيت على أنه من الحائزين لهذه الطهارة والفائزين بهذا الطيب.
وإذ اجتمع له تعليم الشريف الرضي إياه وحنوه عليه.. ازداد الرجل ألقاً على ألق، وهو القائل يخاطب آل محمد ويذكر منتهم عليه في نقله من ظلمة الشرك إلى جمال التوحيد:
حبكم كان فك أسري من الشر
ك.. وفي منكبي له أغلال
كم تزملت بالمذلة.. حتى
قمت في ثوب عزكم أختال
بركات لكم محت من فؤادي
ما أمل الضلال عم وخال
ويقيني أن سوف تصدق آما
لي بكم يوم تكذب الآمال
أبوالحسن مهيار الديلمي هذا الذي تنور بنور أهل البيت الأطهار.. لابد أن تهوله فاجعة أبي عبدالله الحسين الدامية في كربلاء، لابد أن قلبه قد توقد بهذه المأساة الموجعة التي ضربت قلب التوحيد، فتفجر شظايا نور علوي تلقاها ذوو الحظ العظيم، ودخل في حرارتها الحسينية المحمدية أهل المحبة والمودة في حياة جديدة مديدة هي جنائن حمراء محيية نابتة من عشقية الحسين.
أول ما تلقاه مهيار من رزايا كربلاء هذا الحزن المنور الذي يرسخ لآل محمد وشائج الإنتماء، هو ذا يذكر مصابه هو بآل علي الشهداء سلام الله عليه وعليهم أجمعين في "فائية" له:
مصابي – على بعد داري – بهم
مصاب الأليف بفقد الأليف
وليس صديقي غير الحزين
ليوم الحسين، وغير الأسوف
ويستذكر مهيار سيد الشهداء.. فيتراءى له "وجهه الأغر التريب الذي يشهر على الرمح أسنى ضياء من الشمس" والسيف الغشوم الذي غدا أداة يوم عاشوراء لعظمى الجنايات قد سود بالخزي وجوه كل سيوف العالم:
تفلل سيف به ضرجوك،
لسود خزياً وجوه السيوف!
أما الشاعر فأوقعته فجائع كربلاء في مرارة مريرة وحساسية مفرطة، لا الماء الزلال في مذاقه زلال، ولا الثياب الرقيقة الشفيفة يتحملها بدنه:
أمرّ بفي عليك الزلال
وآلم جلدي وقع الشوف
أتحمل فقدك ذاك العظيم
جوارح جسمي هذا الضعيف؟!
وتستهوي مهياراً أسرار كربلاء وبالتحديد: أسرار ضريح السيد العميد الحسين الشهيد، لأول مرة يتعرف عليها هذا الشاعر، فإنه لم يجد لها مثيلاً في سواها من البقاع، من أين يجيء هذا العطر الملكوتي البواح في كربلاء؟! أهو عطر سيد الشهداء روحي فداه، أم هو من عجائب التربة الطيبة التي دفن فيها بدنه الشريف؟! كأنما الأرض في كربلاء ليست تراباً، بل مسكاً من مسك الجنان خالط تربة الطفوف.. وهو ما حمله الزائرون إليه وأتوه به في بغداد:
أنشرك ما حمل الزائرون
أم المسك خالط ترب الطفوف؟!
كأن ضريحك زهر الربيـ
ـــــع هبت عليه نسيم الخريف!
ويودع مهيار إقباله على كربلاء الحسين قصيدة فائية أخرى لا تقل روعة عن سابقتها، إن قلبه المتوله ناظر في كربلاء إلى المزار، سر خفي يجذبه إليه.. جعله يكتفي من زيارته بما يصل إليه في بغداد من نفحات هدايا حسينية فائقة، إنه متواصل مع سيده الشهيد عبر هذه الرسائل النفسية التي يحملها إليه الزائرون، أو يحملها هو الزائرين:
أيا عاطشاً في مصرع لو شهدته
سقيتك فيه من دموعي الذوارف
سقى غلتي بحر بقبرك، إنني
على غير إلمام به غير آسف
وأهدى إليه الزائرون تحيتي
لأشرف، إن عيني له لم تشارف
وعادوا، فذروا بين جنبي تربة
شفائي مما استحقبوا في المخاوف
ولا غرو في هذا من مهيار الديلمي، فإنه قد اتخذ قراره وحسم موقفه التوحيدي القوي.. في والولاية والبراءة: الولاية لآل محمد والبراءة ممن عاند هداهم، بيد أنه يلاحظ ما عليه ملاحظته؛ خوفاً – في الظروف العصيبة – على من يحب من أهل الولاء:
أسر لمن والاك حب موافق
وأبدي لمن عاداك سب مخالف!
ويظل أبوالحسن مهيار الديلمي يذكر أفضال آل محمد وجميل أياديهم عليه – إنهم هم – صلوات الله عليهم – من استنقذه وهداه، وهم من فجر في داخله طاقات الإيمان والمعرفة وفن القول..
وإلا فإنه كان عند أهله من بلاد الديلم عند بحر قزوين آلة عاطلة مركونة وسيفاً لا يعمل.
ومن الوفاء لأهل البيت.. هذا الذي يموج في قرارة نفس مهيار: أنه وظف هذه الهبات الكريمة التي وهبوها إياه في التغني بجمال عظمتهم، وفي الإنتصار لهم بسيف لسانه الذي يمتشقه حين يقتضي الموقف هذا الإنتصار:
وجردتموني، وقد كنت في
يد الشرك كالصارم المغمد
ولازال شعري.. من نائح
ينقل فيكم إلى منشد
وما فاتني نصركم باللسان
إذا فاتني نصركم باليد
أيها الإخوة والأخوات، من هذه الرحلة القصيرة مع أستاذنا الحاج إبراهيم رفاعة في رحاب الشاعر الولائي العالم مهيار الديلمي رضوان الله عليه نخلص الى حقيقة أن أنوار البكاء على الحسين صلوات الله عليه تفجر في المؤمن ينابيع التوحيد الخالص عبر أسمى مصاديقه وهو الإندفاع الصادق في نصرة الله ونصرة دينه الحق المتمثل في مدرسة الثقلين؛ أي البكاء القدسي على سيد الشهداء صلوات الله عليه يبعث في قلب المؤمن الروح الجهادية الخالصة بأشمل صورها ويوجهها في اتجاه النصرة النقية لله من خلال ترسيخ ركني الولاية لأوليائه والبراءة من أعدائه الذين ارتكب أئمتهم فاجعة كربلاء الدامية.
وبهذا نصل مستمعينا الأكارم الى ختام حلقة أخرى من برنامج نور من كربلاء إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، شكراً لكم على كرم المتابعة وفي أمان الله.