سلام من الله العزيز الحكيم عليكم مستمعينا الأعزاء ورحمة الله وبركاته.. تحية مباركة طيبة نحييكم بها في مطلع لقاء اليوم من هذا البرنامج.
أيها الأفاضل، نور التعزز والفوز بالعزة من خلال صدق الإرتباط والنصرة لله وأوليائه الصادقين هو من أزكى الأنوار التي يبعثها في القلب صدق التفجع مع مظلوميات أهل كربلاء وواقعتها الدامية.. ولذلك صار البكاء على الحسين عليه السلام الماء الطهور النازل من السماء لري فطرة التعلق بسرادق العزة الإلهية..
نتلمس هذه الحقيقة معاً – أيها الأعزاء – فيما كتبه أستاذنا الحاج الأديب إبراهيم رفاعة تحت عنوان:
القتيل الذي أذل قتله رقاب المسلمين فذلت له، قال حفظه الله:
هذه القصيدة التائية من أقدم مراثي الناس التي قالوا تفجعاً ومحبة لسيد شهداء الله أبي عبدالله الحسين، إنها من القرن الأول، بل إن أخبار قائلها تذكر أنه أنشأها عند موقع المقتلة لما مر به في كربلاء، بعد ثلاثة أيام من وقعة عاشوراء، واختلف رواتها في عدد أبياتها؛ فمنهم من زاد فيها ومنهم من قلل، على تباين منهم في ترتيب الأيبات.
شاعر القصيدة سليمان بن قتة العدوي، ويقال: ابن قنة وقيل: إن قنة اسم أمه، وأبوه هو حبيب المحاربي مشهور في التابعين، وسليمان هذا عده المبرد في كتاب "الكامل في اللغة والأدب" من المنقطعين الى بني هاشم.
ومهما يكن.. فإن أبيات سليمان بن قتة – التي يتداخل بعض أبياتها بأبيات لأبي الرميح الخزاعي – هي في طليعة من افتتح صاحبها ديوان الشعر الحسيني الواسع الكبير، وكان من أوائل من زاروا الشهيد الإلهي المظلوم بعد مصرعه، ويقال: إنه بقي على قيد الحياة الى سنة مئة وست وعشرين، حيث توفي بالشام.
أخبار سليمان بن قتة توقظ أسئلة لا تهتدي الى جواب: أين كان هذا الرجل حين وقعت الواقعة قبل أن يمر بمكانها بعد ثلاثة أيام؟ ولم لم يشترك في معركة النصرة إن كان موضعه آنذاك قريباً من كربلاء؟ وإذا كان منقطعاً الى بني هاشم – كما يقول المبرد – فما الذي حجزه عن الإلتحاق بعدئذ بثورة النادمين المطالبين بالثأر.. تلك التي عرفت بثورة التوابين عام خمسة وستين؟!
وأخيراً: أهناك سر في حياة هذا الرجل الذي وصفه ابن شهر آشوب بأنه من شعراء أهل البيت المتقين أي المنتمين الى آل محمد بالسر دون الجهر.. جعله عائشاً بعد مقتلة التوابين، أم أن أخباره هذه المتفرقة فيها ما هو مضاف إليه إضافة، وأن له شأناً آخر لم تذكره المصادر؟
لكن الذي لا ريب فيه – من مجموع أخبار سليمان بن قتة – أن أبياته قالها بعد مصرع السيد العظيم أبي عبدالله الحسين بأيام ثلاثة، وربما كان منه ذلك في يوم دفن الأجساد الطاهرة المطرحة على ثرى كربلاء.
في أبيات سليمان هذه تصوير لإحساسه بالأرض الدامية التي مر بها.. وكل شيء فيها ما يزال طرياً يحمل لون الفاجعة.. حتى رائحة الهواء. وفي أبياته أيضاً روايته لفجيعة القتل، وإلماح الى مزايا آل الله المصرعين. ثم يفصح الشاعر عن تذارف عينيه دموع الحزن والأسى على الشهيد المستوحد الغريب.
في البداية.. سجل شعوره بالتبدل والخلو في منازل آل محمد بكربلاء.. وبين مدى ما ساءه من هذا التبدل في المنازل والخلو، وآلمته المفارقة بين أبياتهم يوم حلو فيها، ويوم غدت منهم خالية قفراء:
مررت على أبيات آل محمد
فلم أرها أمثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها
وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
يدرك سليمان بن قتة أن ما حدث يوم عاشوراء.. أمر أكبر مما يظن، ليست الحادثة قتل رجل أو رجال.. ثم تمر كسائر حوادث القتل في التاريخ، وما أكثر حوادث القتل في التاريخ! إن حادثة عاشوراء التي وقعت قبل ثلاثة أيام أذلت رقاباً هي الأعز في العرب وفي الناس أجمعين، إنهم رجال من قريش فيهم – وهم هنا المقصودون – آل أبي طالب لؤلؤة التاج وعين القلادة؛ قال سليمان:
وإن قتيل الطف من آل هاشم
أذل رقاباً من قريش مذلت
تقول الرواية: إن بعض آل الحسن سلام الله عليه لما سمع هذا البيت من ابن قتة – في وقت لاحق – اقترح عليه تبديل عبارة فيه، لكنها عبارة منحت المعنى بعداً أعمق ودلالة أصدق، قال له: هلا قلت:
وإن قتيل الطف من آل هاشم
أذل رقاب المسلمين فذلت؟!
هذا التبديل اللفظي اليسير في البيت أدخل المعنى في رؤية أوسع مدىً وأدنى الى ملامسة الواقع؛ فإن عظم هذه الفاجعة قد أطاح بعزة المسلمين، فما بقيت لهم من عزة، وأذل رقابهم الى الأبد، وهذا ما تصدقه وقائع التاريخ:
وإن قتيل الطف من آل هاشم
أذل رقاب المسلمين فذلت
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة
لقتل حسين، والبلاد اقشعرت؟!
ألم تر أن البدر أضحى ممرضاً
لقتلى رسول الله لما تولت؟!
وقد أعولت تبكي السماء لفقده
وأنجمها ناحت عليه وصلت
ليست وحدها عزة المسلمين – عند قتل الحسين – من أصيبت في المقتل؛ فهذه عناصر الخليقة كلها داخلة في معزوفة حزن أبدية من هول ما حدث: الأرض نفقد عافيتها، وبلدانها تقشعر، والبدر غدا مريضاً عليلاً، والسماء في مناحة بكاء.. حتى النجوم تنوح وتصلي على الحسين، وليس شيء من هذا كله من أسلوب المجاز الشعري، بل هو من الوقائع السماوية والأرضية التي صدق حدوثها مؤرخو المسلمين.
الشاعر – بوصفه مفردة في هذا العالم – يبكي كذلك، وتأخذه العبرات التي "ترمعل" في تذراف متتابع، وهذا منه في حق آل النبي صلى الله عليه وآله قليل، فلأبي عبدالله الحسين حق على الناس أن يفعلوا من أجله الكثير الكثير.
فجالت على عيني سكائب عبرة
فلم تصح بعد الدمع حتى ارمعلت
تبكي على آل النبي محمد
وما أكثرت في الدمع، لا بل أقلت
ما ثمة قتيل شهدته الأرض له من المزايا في استدرار دموع العين والقلب ما لأبي عبدالله الشهيد الوتر الذي لا ثاني له، هذا سر سار في العالم.. عرفه من عرفه، وجهله من جهله، وهو السر الذي سيجله الله تبارك وتعالى في قيامة العالم، فيفرح عارفو الحسين ومحبوه، ويندم من غفلوا عنه وجهلوه، أما القتلة الجناة الأشقياء ومن انتمى الى موقفهم.. فلهم حديث آخر يفزع منه أهل النار!
إن الرزية – في رؤية سليمان بن قتة – هي رزية مضاعفة: قتل حبيب الله وابن حبيبه تلك القتلة المفجعة الرهيبة وحده كاف ليرنح أشد الناس شكيمة وتصبراً، وإذا ما تطلع إلى أوصاف شهداء الله في كربلاء – يقودهم سيدهم الحسين – فإن وصفاً واحداً من هذه الأوصاف يزيد المأساة أسىً والفاجعة شدة وحدة:
وكانوا غياثاً.. ثم أضحوا رزية
لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
هذا التحول المتضاد في نفسه هو عنصر كرب وهم مضاعف، فإن من كان ملاذاً لأصحاب الرزايا وكهفاً حصيناً لأهل البلاء قد غدا هو نفسه مركزاً للرزايا والبلاء! تقول الرواية: إن أعرابياً أصابه الضر، فأتى المدينة وسأل أبا عبدالله الحسين أن يعينه، فوهبه أبوعبدالله مالاً كثيراً واعتذر إليه عن قلة ما أعطاه! دهش الرجل من جود سيد شباب أهل الجنة ومن فيض سخائه، فبكى. قال له الحسين سلام الله عليه: لعلك استقللت ما أعطيناك! قال: لا، ولكن.. كيف يأكل التراب جودك؟!
لكم منا مستمعينا الأطائب أطيب الشكر على طيب الإستماع لحلقة اليوم من برنامج نور من كربلاء إستمعتم لها من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران..
دمتم في أمان الله.