سلام من الله عليكم إخوة الإيمان ورحمة منه وبركات.. أهلاً بكم في أولى حلقات هذا البرنامج الذي نسعى فيه للإستنارة بأنوار القيام الحسيني المقدس من خلال ما تشعشع منها في قلوب شعراء الأدب الحسيني فحملته قصائدهم الحسينية التي خلدها لذلك التأريخ.
وأسرع تلك الأنوار ظهوراً هو الذي تجلى في نهضة التوابين الخالدة وعن شاعرها كتب أستاذنا الأديب الحاج إبراهيم رفاعة تحت عنوان شاعر الثورة يقول:
قصيدة عوف بن عبدالله بن الأحمر الأزدي اليائية من قديم شعر الطف.. فصاحبها كان قبل الواقعة ومعها وظل بعدها، ولم يشارك في نصرة شهيد الله الحسين.
تشير أخباره إلى أنه ممن شهد وقعة صفين مع علي أميرالمؤمنين، وأنه التحق – بعد استشهاد الحسين – بثورة التوابين، فكان شاعر الثورة المحرض على الثأر والإنتقام.
إنه كما كانت واقعة كربلاء الدامية أوسمة شهادة فريدة لشهداء الحسين، ووصمات عار أبدية لعسكر قاتليهم.. كانت الواقعة لعوف الأزدي هذا منشأ مشكلة نفسية وعقدة روحية عميقة.. هي مشكلة القعود عن النصرة، وعقدة الندم والعذاب الداخلي الذي لا يداوي ولا يداري.
ما كان لعوف من مسوغ للتخلف والقعود وحسين الله يواجه عشرات الألوف من الضالين والمضللين.. حتى قضى – روحي فداه – مقطعاً بسيوف الحقد الأموي الجاهلي.. صاعداً الى الله مزملاً بالدم، ومعه أهل بيته من شبان آل محمد وخيرة الأصحاب، هم فازوا الفوز الأعظم، لكن هذا الشاعر المقاتل المجرب دخل بعد الفاجعة في صحراء نفسية قاحلة.. كلها تراب أسود وملح خانق وظلام، هو نفسه يعترف أن لا حجة له في التخلف ولا عذر، حتى نفسه لم يستطع أن يقنعها بمسوغ – ولو ضعيفاً – يخفف عنه وطأة الإحساس بالندم الأكال لعدم نصرته الحسين فقال:
فيا ليتني إذ ذاك كنت لحقته
وضاربت عنه الفاسقين مفاديا
فيا ليتني إذ ذاك كنت شهدته
فضاربت عنه الشامتين الأعاديا
ولكن عذري واضح غير مختف
وكان قعودي ضلة من ضلايا
وقعت واقعة الحسين العظيمة المدوية.. فاستبان لعوف الأزدي فجأة أن كل شيء قد خرب، وكل شيء فقد توازنه فتهاوى وآنذاك، الشاعر أيضاً قد تهاوى فجأة وخرب، لكنه خراب موت معنوي جسيم، وما تهاوى واندكّ من كائنات العالم إنما فعل ذلك حزناً ومواساة؛ ففي قتل أبي عبدالله الحسين قتل لعماد العالم وذبح للصورة القدسية التي يتجلى فيها من العوالم العلوية ما يتجلى، لا الأرض بقادرة على البقاء على حالها ولا السماء، كل شيء تغير، وكل شيء داخل في مناحة مستديمة وحزن أبدي؛ قال الأزدي:
تزلزلت الآفاق من عظم فقده
وأضحى له الحصن المحصن خاويا
وقد زالت الأطواد من عظم قتله
وأضحى له سامي الشناخيب هاويا
والشناخيب: أعالي الجبال؛ وقال:
وقج كسفت شمس الضحى لمصابه
وأضحت له الآفاق جهراً بواكيا
كل مشهد من هذه المشاهد الكونية يعمق الإحساس في باطن الشاعر بالذنب، ويوقفه على مدى خيبته وخسرانه، ويغرز في كل مكان من داخله شفرات التحسر والندم، ولن يهون خطبه أن آخرين من الكوفيين قد فعلوا مثل ما فعل، إن المسؤولية تطوق عنقه وتحكم حول رقبته الخناق لتخلفه عن نصرة الحسين عليه السلام.
ويزيد الشاعر ألماً داخلياً أنه يعرف الحسين عن قرب، ويعرف أيضاً لؤم القتلة الجناة الذين حاربوه، وجلهم كانوا قد كاتبوه أول الأمر وبايعوه! قال عوف الأزدي:
لحى الله قوماً أشخصوه وعردوا
فلم ير يوم البأس منهم محاميا
لحى الله قوماً كاتبوه لغدرهم
وما فيهم من كان للدين حاميا
ولا موفياً بالعهد إذ حمس الوغى
ولا زاجراً عنه المضلين ناهيا
ولم يك إلا ناكثاً أو معانداً
وذا فجرة يأتي إليه وعاديا
وأضحى حسين للرماح دريئة
فغودر مسلوباً على الطف ثاويا
قتيلاً كأن لم يعرف الناس أصله
جزى الله قوماً قاتلوه المخازيا
لا ريب أن عوفاً الأزدي يبكي، يبكي بكاءً مركباً: بكاء على ظلامة الشهيد المستفرد الغريب، وبكاء ندامة وعذاب وجدان، وهو يدعو الناس – إعداداً لثورة النادمين مثله – الى البكاء:
ألا وانع خير الناس جداً ووالداً
حسيناً.. لأهل الدين إن كنت ناعيا
ألا أبكوا حسيناً كلما ذر شارق
وعند غسوق الليل فابكوا إماميا
ويبكي حسيناً كل حاف وناعل
ومن راكب في الأرض أو كان ماشيا
عوف الأزدي يشهد أنه صحا عن ضلته وندم على سوء فعلته، لكنه هذه المرة لم يقعد ولم يتخاذل، صحوة انتهت به الى الثورة المطهرة وحمل سلاح الثأر، هي ذي ثورة التوابين مقبلة، إنهم النادمون العائدون الى النصرة ولو بعد فوات الأوان، إن ما يقدرون عليه الآن هو قتل أنفسهم بسيوف أعداء الحسين كما قتل الحسين، لعل في ذلك تخفيفاً وخلاصاً من الدنيا التي صارت لاتطاق.
إنهم يستشهدون الآن بين يدي الحسين "قضاء" لا "أداء"! وسيكون عوف هذا في طليعة المحرضين وشاعر الثائرين لينشد قائلاً:
صحوت وودعت الصبا والغوانيا
وقلت لأصحابي: أجيبوا المناديا
وقولوا له إذ قام يدعو الى الهدى
وقتل العدى: لبيك لبيك داعيا
وقوموا له إذ شد للحرب أزره
فكل امرئٍ يجزى بما كان ساعيا
وسيروا الى الأعداء بالبيض والقنا
وهزوا حراباً نحوهم والعواليا
وحنوا لخير الخلق جداً ووالداً
حسين.. لأهل الأرض لا زال هاديا
ويوسع نطاق إيقاظه وتحريضه على الثورة وأخذ ثأر كربلاء.. ليشمل الناس كل الناس:
فيما أمة ضلت عن الحق والهدى
أنيبوا، فإن الله في الحكم عاليا
وتوبوا الى التواب من سوء فعلكم
وإن لم تتوبوا تدركون المخازيا
تجمع الثوار – وفيهم عوف – في ساعة الصفر عند قبر شهيد الله الحسين في أرض كربلاء، وهنالك بكوا ما أمكنهم البكاء، وندموا ما وسعهم الندم، وتابوا الى الله توبة لا رجعة عنها.. ثم انطلقوا الى غايتهم.. يقودهم الصحابي الشيخ سليمان بن صرد الخزاعي، كان ذلك في العام الخامس والستين الهجري، حيث التقوا – وهم أكثر من ثلاثة آلاف – بجيش جرار من أهل الشام، يمده عبيد الله بن زياد بآلاف بعد آلاف، ثم التحموا التحاماً غير متكافئ في "عين الوردة" بين حران ونصيبين من بلاد الشام، وانكشفت المعارك في يومها الثالث عن مقتلة شاملة للرجال التوابين، ولم يفلت منهم إلا أقل القليل.
ومن حينها انقطعت أخبار عوف الأزدي وتوارى ذكره، بيد أن قصيدته هذه اليائية ظلت من بعده شاخصة حية.. تحكي وتؤلب وتحرض كما كان صاحبها في حياته، ولهذا تعرضت للإخفاء والتغييب، قال المرزباني: كانت هذه القصيدة تخبأ أيام بني أمية، وإنما أخرجت بعد ذلك.
هؤلاء النادمون المستميتون فازوا بالقتل على نياتهم التي عليها يحشرون.. كما فازوا بدعوات الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين؛ إذ كان يدعو لهم جميعاً وواحداً واحداً بأسمائهم.. رضوان الله عليهم، وتستمر أنوار كربلاء تتألق في الخافقين تنير طريق الإنابة الى الله رب الحسين وآل الحسين عليهم السلام.
نشكركم مستمعينا الأكارم على كرم متابعتكم لأولى حلقات برنامج نور من كربلاء قدمناها لكم من إذاعة طهران صوت الجمهورية الإسلامية في ايران، دمتم في أمان الله.